يوم في حياة كاظم جهاد
كاظم جهاد *
الجمعة 23 آذار (مارس) 2007
يستيقظ الكائن – غير - الكائن الذي هو أنا، والذي سأتكلّم عنه هنا بضمير الغائب كي أحْسن الإمساك بمفارقات وجوده وغياباته الكثار، أقول يستيقظ على صياح ديك ترافقه موسيقى النفير المعروفة في الغرب بموسيقى ديانا (باسم إلهة الصيد في الميثولوجيا اليونانية). النفير الصباحيّ الداعي إلى النهوض واستئناف الأعمال ينبعث من الساعة المنبّهة الملحقة بهاتفه الجوّال، وكذلك هو أيضاً صياح الديك. بعيدة هي أعوام الريف التي كانت ديَكة وطيور حقيقية تجول فيها بين أعضاء جسد النائم وتخلّف أحياناً على فراشه بعض ذروقها الملوّنة.
يفزّ صاحبنا كالمذعور، لكنه سرعان ما يعاود الرقاد طامعاً بلحظات نوم إضافية يرتّب فيها رأسه. فمنذ سنوات وصاحبنا بلا ترتيب داخليّ، ولا هندسة روحيّة. وكما تنفق الحسناوات لحظات طويلة في ترتيب هندامهنّ، يشرع صاحبنا، وهو على قاب قوسين أو أدنى من كلا اليقظة والنوم، بتحسين هندام روحه. في تمرين شائق ومهدّد بالإخفاق، يحاول طرد ذكرى أليمة ناتئة، ويؤجّل مشاعر الأسف على عُمر يحسب هو أنّ لديه الأدلّة الكافية على أنّه كان عمراً مهدوراً، ويرجو من صوَر أحبّائه الراحلين قبل الأوان أن تهبه هنيهة سلوان. يودّ لو هدأ قليلاً بكاؤه الصامت العريق ليتسنّى له التفكير بما يدعونه الحياة العمليّة.
يعاود الديك المسعور صياحه بالتناوب مع موسيقى ديانا (الساعة المنبّهة مبرمجة بحيث تستأنف الزعيق كلّ ربع ساعة، ما لم يُسكتها نهائياً)، ويكون في هذه المرّة استيقاظه الحقيقيّ. تحت "الدشّ"، وفي أثناء الحلاقة، وفيما يتناول فنجان القهوة الذي هو كلّ إفطاره الصباحيّ، وقوفاً كالعادة، يفكّر بما سيقوله لطلاّبه في "المعهد الوطنيّ للغات والحضارات الشرقية" إذا كان اليوم يوم تعليم. يكون قد اختار في العشيّة أبيات الشعر التي سيُعلّق عليها (شعراء عرب قدامى دوماً، فهذا هو اختصاصه) أو قطعة النثر التي سيشرحها شرحاً نقديّاً. في جميع المرّات التي هيّأ فيها درسه على الورق، تلافياً للتركيز المجهِد الذي ينبغي بخلاف ذلك القيام به في قاعة المحاضرات، كان الدرس شديد الرداءة: تختلط عليه أوراقه ولا يجد سياق أفكاره أو تحليلاته. ولذا اعتاد أن يرتجل دروسه ومحاضراته انطلاقاً من بضعة سطور (ما يسمّونه "رؤوس أقلام"). ذاع في بلاد الفرنجة صيته كأستاذ مرتجل (بكسر الجيم) باللغتين. ذهنه نفسه تكيّف بمرور الزمن على الارتجال الفوريّ يندفع إليه بعنفوان وفرح ما إن يلفي نفسه محاطاً بطلاّبه أو المستمعين إليه. لانتظارهم لكلامه وإصغائهم اليه يدين هو بلحظات الحبور، ولِمَ لا نقول السعادة، النادرة التي عرفها في حياته.
من ائتلاق أعين بعض الفتيات (ثمانية وتسعون بالمائة من تلامذته فتيات، وهي نسبة شائعة في دروس الأدب في الغرب ) من تفرّسهن إيّاه فيما يتكلّم يعرف أنّ درسه مقبول على الأقلّ، ولن يجلب له العار. لن يقول أحد إنّ هذا العراقيّ (لقبه الشائع في الجامعة) تكلّم كثيراً وما قال شيئاً.
نظرات الفتيات في تلك اللحظات أشبه ما تكون بقران صامت، انصهار روحيّ يدوم ما دامت المحاضرة، ولدى الخروج من القاعة ينتهج كلٌّ طريقه. نادراً ما تقف معه تلميذة من أجل "الدردشة"، وإذا ما حدث ذلك فهو حوار مشوب من جانبها بخجل كبير. ربّما كان الباعث في ذلك فارق العمر أو عقلية المراتبيّة التي ما فتئت تسكن أذهان تلميذات هذه البلاد على ما يشيع عن تحرّرهنّ. ولذا اعتاد ألاّ "يستفزّ" لقاءاته بالطالبات، بل يجعلها تأتي عفواً.
يتناول صاحبنا طعام الغداء في مطعم الأساتذة. عندما بدأ ممارسة هذه المهنة منذ ما يقرب من عشر سنين، كانت هذه اللحظة مبعث سروره. أخيراً سيتمكّن من الكلام مع أقرانه أو سابقيه في هذا السلك ويبادلهم انطباعات في اللغة والأدب والعالم. بعد عام أو عامين اكتشف ضعف زملائه، تسابُقهم على الترقيات واستعدادهم لتعطيل بعضهم البعض وغيرتهم من كلّ من ينتج شعراً أو فكراً. ولأنّه عاجز عن المجاملة وجاهل لأدنى مبادئ الديبلوماسية فسرعان ما سئم هذه المآدب المشتركة وصار يلتهم طعامه بسرعة ويغادر.
عندما لا يكون لديه دروس بعد الظهر، يتّجه إلى الدائرة الخامسة من باريس، حيث "معهد العالم العربيّ" والسوربون التي يحاضر فيها أحياناً. يقرأ لسويعات في مكتبة المعهد أو الجامعة وينقّب في بطون المجلّدات القديمة. ثمّ، مع اقتراب الأصيل، ينصرف إلى شعيرته الأثيرة: يخفّ إلى المقهى حيث ينتظره أصدقاؤه ومعارفه من الجالية العربيّة المثقفة. مقاهٍ وتجمّعات أنفق في ارتيادها شطراً من عمره، وليس في مقدوره أن يستغني عنها. لا يقدر أن يحيا من دون جماعة، من أبناء جلدته بالتفضيل. فالغربيّون لقاءاتهم خاطفة، يتداولون معك موضوعاً ما، ثمّ يغادرونك وتغادرهم. ثمّ إنّ تمسّكه بالعربيّة يجعله في حاجة دائمة إلى ما يدعوه رولان بارت "وشوشة اللغة"، لغته الأمّ لا لغة سواها. في بعض الأحيان تبدو له هذه اللقاءات شبه اليوميّة زمناً ضائعاً على حساب الكتابة والحياة الحقيقيّة، ويتساءل إن لم يكن عليه أن ينتهج سبل العزلة كما يفعل جميع الفنانين. ثمّ يعترض على تفكيره ويتذكّر أنّه متوحّد أغلب الأحايين خلا لحظات الحوار هذه.
يلتقي خصوصاً لبنانيّين وبعض المتمرّدين السوريّين وأحياناً مغاربة عرباً. الفلسطينيّون صاروا قلّة في هذه البلاد، وطالما جرحوه بإشادتهم الدائمة بصدّام حسين، يسارع إليها حتّى أكثرهم معرفة وإبداعاً. وعراقيّو فرنسا أبعده عنهم، منذ سنين، ولعهم بالصراعات الأبديّة وتشكيكهم به ردحاً من الزمن لأنّه رفض في شبابه الانضواء تحت لواء أيٍّ من الحزبين المهيمنَين على الحياة الثقافية والشارع والسلطة، واللذين لا يجمعهما سوى خصلة واحدة: قدرة باهرة على الإيذاء وعلى محاربة المارق عليهما بكلّ ما لهما من قدرة على التجفيل النفسيّ والإرهاب الفكريّ. يلتقي صاحبنا رفاقه اللبنانيين وغير اللبنانيين ويصغي إلى أحاديثهم المطوّلة تجمع الأدب بالسياسة وتُشبع مفارقات الراهن العربيّ تحليلاً وبحثاً. أفكار وأفكار مضادّة وتداول للآراء يقرب أحياناً من العنف ثمّ يستقرّ عند حدود معيّنة تفرضها الصداقة ودماثة الخلق. حضر صاحبنا أفراحهم ومآتمهم ورأى إلى الذكريات وهي تنهشهم تارةً وإلى النضال وهو يجتذبهم طوراً. حفظ أسماء قراهم وشوارع مدنهم الأصليّة، وسمع من بعضهم الحكاية نفسها ألف مرّة كما لو كان يسمعها للمرة الاولى. أصدقاؤه هم، قبلوه واحداً منهم حيثما كان مطارداً من لدن فلول اليسار واليمين من أبناء بلده، تصحبها جحافل "زعران" الأدب وأدعيائه يرسمون لصاحبنا صورة زائفة ويرجمونه بالشائعات. أصدقاؤه هم، يحبّهم حتى في هوسهم التكراريّ، وليس مستعدّاً لأن يبدلهم بسواهم.
عندما يشبع الكلام من الكلام وتنفضّ الجلسة، التي تختتم أحياناً بحضور تقوم به الجماعة كلّها لحفل أو ندوة، وعندما لا يكون لديه لقاء مع امرأة (تدخل النساء في حياته لأسباب يجهلها ويخرجن منها لأسباب يجهلها)، يفيء إلى مسكنه الذي يدعوه هو، بمقتضى مزاجه المتقلّب، ورشة تحوّلاته أو منزله منزل الأشباح. يُمضي بعض الوقت في كتابة رسائل ألكترونيّة وفي مراجعة صحف اليوم، أو في ترميم ترجمات قديمة له يُضحكه، وفي الأوان ذاته يُحزنه ما يلقاه فيها من ضعف وركاكة. ثمّ يستأنف القراءة، قراءة متقّطعة أبداً، فهو لا ينعم إلاّ نادراً بالقراءة المتواصلة التي تخمد في أثنائها جميع الهواجس ويصمت هدير الذكريات الأليمة ويخفّ شعوره بالخسران المرّ. في قراءة صافية كهذه يحدث لذهنه أن يتواثب بين السطور بنشاط وتوقّد ويروح يلتهم الصفحات والفصول. عندما يدلف إلى فراشه، تكون غفوته سريعة، لا لخلوّ باله، بل بالعكس: لقد علّمه أرقه والقلق ألاّ يخلد إلى النوم إلاّ وهو في غاية النعاس والتعب، بحيث أنّه إذا لم يستلقٍ لينام أوشك أن ينهار على طاولته.
حاشية: ألتفت وأنا أفرغ من مراجعة هذه الكلمة أنّ "صاحبنا" هي "التسمية" التي أطلقها طه حسين على نفسه في كتابه الشهير "الأيّام". فلعلّي، دون وعي مباشر، تيمّنتُ به ونسجتُ على منواله.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire