ولــد ضــاع مــن إيديــا
عباس بيضون
ولد ضاع من ايدياوالثاني خايف عليههذا ليس خبراً، انه لازمة اغنية. المغني واقف وجنبه ولد لطيف عيناه غارقتان فيه وراحته على خده. انه ابنه وسنعرف ذلك قبل ان يصدح متألما. ولد ضاع من ايديا والثاني خايف عليه.لسنا نعلم الى اين يتوجه بهذا النداء، ليس الى الشرطة بالطبع وليس الى الجمهور الذي لن يعرف كيف يواجه في صيحة واحدة مسألتين بهذه الخطورة فهو لن يبت في امر الصبي المفقود حتى تشغله مسألة الصبي المهدد. كل هذا فوق طاقة الأغنية والغناء والجمهور الماثل للطرب بل فوق طاقة الطرب نفسه. عهدنا بالأغنية انها تبكي على مفقود او تخاف على حاضر اما ان تجمع الاثنين فيما يشبه شكوى قضائية لا تجد من يستلمها، أما ان تركـّب على رأس المستمع وقلبه قضيتين يتوزعان في اتجاههما، اما ان تغدو الأغنية مانشيت كارثياً او تحتشد بالفظائع كما لو كانت خبراً برقياً في ركن الحوادث المتفرقة، أما أن يحشر المغني كل ذلك في مطلع اغنية فإنه يدل على تعب القلب مما يعاني وتعب النفس بل وسأمها مما تواجه. يدل على ان الفظائع المتلاحقة تغدو تعداداً فحسب او مادة أرشيفية وليس اكثر من محضر لعين. يصرخ المغني بمصيبته فنشعر انه يعددها فحسب، لفرط ما تراكم على قلبه وذاكرته. لفرط ما تراكم على ذاكرة الجمهور وقلوب الناس ضاقت العبارة وتحولت مستودعاً للمعاني بل ومدفنا، ولا تفعل سوى ان تحصي الآلام كما تفعل شاهدة الضريح بالموتى، تحمل اسماءهم وتواريخ وفاتهم فحسب. يجمع المغني ولديه في شطر. كما يجمعون المفقودين في تقرير او المتوفين في مقبرة جماعية، يصرخ باسميهما كما لو كان يصيح بمانشيت في صحيفة، انه ألم بدون شك لكنه ألم مطرود، ألم متحجر، ألم معمم كما لو انه بدون صاحب ولا مؤلف، ألم مبتذل ومبذول ومطروح على قارعة الطريق.يصيح المغني: ولد ضاع من ايديا والثاني خايف عليه.صوتة يشرق بالدموع، مع ان النغم لا يستوي تماما في فمه، البكاء يكمل الإيقاع ويتابعه حين ينقطع. وتفكر ان المغني يبكي ايضا من تحجر كلماته ومن عجزها، يبكي بحثا عن قلبه وعن حزنه الخاص. ربما ليجد ايقاع نفسه تحت هذا التراكم الخبري، تحت العموم الذي لا يترك له اي بادرة. انه يبحث عن كلمته كما يبحث عن الإبن المفقود بين آلاف المفقودين، والإبن الخائف بين آلاف الخائفين وعن ذاته بين آلاف المفجوعين، ثمة عنوان كبير يطبق على الجميع ويحشرهم تحته كما يفعل قبر جماعي.في أي مكان آخر تغدو الأغنية خبراً؟ في اي مكان آخر تغدو الأغنية تراكماً وتعداداً؟ ليس إلا حيث يصير الحزن رصيفاً للناس، ويجد الجميع قلوبهم مطروحة على قارعة الطريق. حيث الهم يميت القلب كما قال الإمام علي او يتحول الى كم ميت. في اي مكان نبكي بلا قلب. انه في العراق، لكنه قد يكون في فلسطين، او في الصومال، ولماذا لا، قد يكون في لبنان.عرفنا ذلك ونعرفه هنا. المقابر الجماعية سرعان ما تغدو حدائق او ارصفة، العشب يطلع فوق الموتى متكلماً آخر مرة عنهم، سيدمغهم جميعاً بهذا اللون الأخضر الداكن الذي هو ايضا لمسة النسيان. المتجولون هناك سيكونون بدون ان يدروا اقارب او اصحاباً. المقابر الجماعية جزر للنسيان او ألغاز للمؤرخين في المستقبل، إنها كارثة صامتة ورعب بارد، عنف مؤرشف او وثيقة بالأسنان والعظام وخير لها ان تبقى مختفية، ولا يعني اكتشافها شيئا سوى للأثريين. خير لها ان تبقى نائمة بدلاً من ان تبدو حفرة فحسب، حفرة او تاريخاً مسروقاً. إنها مقايضة ساخرة بالألم، خيبة اقل منها فضيحة، عبرة حمقاء وبالتأكيد لا تستطيع ان تساوي حداداً. المقابر الجماعية تتوقف عن ان تخيف ككلمة، تحتاج كأغنية المغني الى فائض معنى وفائض كلام وفائض بكاء، وفي النهاية ليست لأحد سوى للصوص وبعضهم ايضا من لصوص التاريخ. ماذا نبني على مقبرة جماعية. ليس الربيع الذي يطلع عليها بالطبع، ليست الحديقة ولا النصب او السجل التذكاري، إنه في الغالب انفصال مؤذ وربما لا مبالاة فاغرة، وربما تقلق كفم ادرد يسعى الى ان يبتسم، لكن يمكننا ايضا ان نمر بدون شعور، او يفارقنا الإحساس بأننا نسينا شيئا هنا ويمكن ان نظن ان هذا نوع آخر من الصلاة، او نفكر بأننا التقينا مرة بقدرنا. فحين لا نسمع شيئا يمكن ان يكون هذا دوران الأرض او مرور التاريخ.المغني العراقي الذي يصدح من قبر جماعي لا يسعى لتحذيرنا ولا لتحذير نفسه، الأرجح انه تعدى الخطر وصار في ما بعده. قُتل الخطر مع الابن المفقود وسيقتل الخوف مع الابن المهدد. القبر الجماعي مستقبلي على نحو مدهش والعالم فيه تحقق تماماً ولا ننتظر منه شيئاً، لا احجيه ولا حيرة بل يقين موحش بلقع يمثل احيانا كنهاية مجيدة ويمثل احيانا كنكتة سوداء. المغني العراقي يصدح من وراء القبر ونحن ايضا في هذا البلد الذي لا نزال نكتشف فيه كل يوم مقبرة جديدة ولا يزال آخر قبورنا الجماعية حديثاً ولم يطلع عليه الربيع بعد. في هذا البلد نتنادى من داخل القبر ومن ورائه ومن امامه وفي الغالب لا نسمع بعضنا. الماضي يقلد المستقبل والخريف ابدي وراء القبر، والمستقبل يقلد الماضي والشتاء ابدي داخل القبر، اما امام القبر فالحاضر لم يصل بعد. هذا كلام مبهم بالطبع ومبهم عن قصد، في الوراء مساخر وفي الداخل قرابين وفي الامام صيادون في انتظار ان يصل البحر. لكن اللعبة تختلط كثيراً، تطفح الأقنعة وتتحايل القرابين وتجري التضحية في الصيادين. اللعبة تختلط اكثر، يضحى بالقرابين في كرنفال ويضحى بالكاريكاتورات في تراجيديات كبيرة ويضحى بالصيادين في مؤامرات صامتة. في النهاية المؤامرة والمسخرة والتراجيديا ترقص داخل القبر الجماعي... لا ننسى إنها الحرب الأهلية.الحرب الأهلية ايضاً، إنهم يكذبونها، ينكرونها ثلاثاً قبل صياح الديك وثلاثاً بعد ناقوس المساء، وبالطبع ينكرونها عند الظهر والعصر وقبل العشاء، إنه الإنكار الكافي ليصنع حرباً، الكافي ليجعلنا لا نسمع إلا صوت الإنكار وحده يقرع آذاننا. ماذا بعد الإنكار؟ لا نسمع سوى صفير الوحشة، سوى انكار ثان وثالث، لكن المجهول لا يجيب وإنكاره وحده هو الذي يصفر مهدداً امامنا. يقولون لن تقع، لكن حرب طروادة لم تقع ايضا، ولم تقع حروب اخرى اسست للتاريخ البشري. سؤال ساذج بالطبع لماذا هذه الحشود ولماذا هذا السلاح ولماذا ذلك المال وفيم تلك العداوة؟ سؤال ساذج بالطبع لأن ذلك يفوق الحرب الأهلية فهي افقر من ذلك وأقل إمكانية ولا بد أننا تجاوزناها. لا بد أنها كحرب طروادة تقع بدون ان تقع، وما حصل تعداها. ليس في هذا اي سخرية، اذ انهم يطمئنوننا بمزيد من العداوة والمال والحشد والسلاح، هكذا نفهم ان لا احد يصنع حرباً أهلية بسلاح نووي ولا بملايين الناس ومليارات الدولارات، هذه قد تكون نواة حروب اخرى اكبر وأعظم. لننسَ إذن الحرب الأهلية البائسة والفقيرة ولنفكر بشيء آخر، الحروب الإقليمية مثلاً. لنفكر بحرب عالمية صغيرة. لا اقلّ من ذلك يناسبنا حين نغدو قوة عظمى.يطمئنوننا ان لا حروب اهلية وعلينا ان نعتمد على كلماتهم وعلى وعودهم لأنهم وحدهم القادرون عليها. كلماتهم مقابل حرب شاملة، كلماتهم مقابل مستقبل كامل، كلماتهم مقابل 10٪ من السكان ونسبة أكبر من الممتلكات. كلماتهم فقط ووعود الشرف، فحسب، لا تسأل اكثر، إنك بذلك تضع كلماتهم موضع اشتباه، إنها مسألة ثقة، من يقدر على صناعة حرب لا يقدم ضمانة اكبر من كلمته. اما الخوف، اما التكتيل والشحن والتعسكر والشحذ والحقن (إنها حاءات الفتنة) اما هذا كله فيستحيل بالكلمة نفسها سلاماً وازدهاراً ووحدة ونظاماً وتحضراً وعمراناً ودولة، وصدق ـ ليس امامك إلا ان تصدق ـ ان من خرجوا من هنا وهناك خرجوا طالبين سلاماً واجتماعاً وتحاباً. صدّق إن شئت او لم تشأ انها مسألة كلمة، والسر عند أصحابها، وبهذا السر، لنقل السحر، يتغير كل شيء.يطمئنون ان لا حرب أهلية، حسن أنهم نطقوها، كرم أنهم سموها، كرم وتنازل، عسى أنها لم تزعج منطقهم الذي ليس فيه سوى شعوب عظيمة وأوطان واحدة شريفة وحريات بلا حصر ودول وقوانين. عسى أنها لم تحيرهم من اين جاءت وكيف تجيء الى بلاد ليس فيها سوى العظمات والدساتير والوطنيات والسيادات والشرف. كيف جاءت وهي ليست على الجداول الشامخة المعدة للمستقبل، وكيف نقتل ونحن في حراسة رعاتنا الأجلاء الذين يريدون لنا ولأنفسهم بالطبع ان نكون الأعظم والأكرم. لماذا يطمئنون ان لا حرب، وهل وجدوا هذه الكلمة في ثيابهم كشعرة سقطت من حيث لا يدرون، هل يتنصلون من الآن منها ويضعونها على رؤوسنا، ام يريدوننا ان نسير إليها بدون وعي، اذا لم نخضها من دون ان نعلم بأسماء أخرى.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire