samedi 30 juin 2007

حوار مع حسن داوود



حسن داوود الذي كتب رواياته في مكتب ناظر المدرسة

لم نجد ضيرا في الانتساب لثقافة مصر

حوار

محمود الورداني

لا أظن أن حسن داوود بحاجة إلي التقديم، فروايته الاولي 'بناية ماتيلد' كانت مهمة وصدرت لها طبعة شعبية في القاهرة، والمهتمون بالرواية عرفوا طريقهم إلي أعماله التي توالت بعد ذلك..لكنني ربما أكون متأكدا أن هذه هي المرة الاولي التي يتحدث فيها داوود طويلا، بعد أن بنينا معا جسرا من الثقة المتبادلة بعد أن اقتربت منه دون أن أعرفه شخصيا أثناء انعقاد مؤتمر الرواية الاخير في القاهرة وسألته: أنت حسن داوود؟ فأجابني بأنه حسن داوود فعلا! فطلبت منه أن نجلس معا قليلا وأن نتحدث. فعلنا هذا. ثم طلبت منه أيضا أن يرسل فصلا أو فصلين من آخر رواياته، فغاب عدة شهور ثم أرسلها.. وهكذا اكتمل بستان حسن داوود الذي نفرد له الصفحات التالية..استطيع أن أقول بثقة واطمئنان كاملين أن حسن داوود هو هذا الحوار، فقد تحدث مثلما يكتب رواياته بتؤدة وروية وهدوء دون أن يسمح لنفسه بأن يصرخ أو حتي يرفع صوته، ومع ذلك فهو متيقن تماما وواثق مما يقوله إلي الحد الذي لايحتاج معه إلي أن يرفع صوته!هكذا إذن تكلم حسن داوود، وهكذا بنيت معه جسرا من الثقة والمحبة.
'لعب حي البياض' روايتك التي نقدم هذا المجتزأ منها في الصفحات التالية.. كيف تراها بعد أن انتهيت منها؟في يفاعتي كنت ميالا لأبي. كان وسيما طويل القامة كريما، والتحسن الذي طرأ علي وضعه المالي والاجتماعي، انعكس عليه خصوصا دون أمي. كان بالتعبير الشائع مثلي الأعلي، وكنت أري أمي شخصا ساكنا لاتأخذه بسهولة عادات سكننا الجديد في أحد بيوت بيروت الراقية نسبيا طبعا. كانت أقل تكيفا منا جميعا في هذا السكن الجديد، وقد أدي ذلك بها للانعزال عن سكان البناية جميعهم باقية هناك في مدينتها الصغيرة النبطية، بل وفي حيها الذي ظلت تعتز به طوال حياتها، فتقول مثلا 'ليس هكذا تحب أن تتزين نساء حي البياض'.متأخرا عرفت وأنا في أربعينياتي أن أمي كانت تتحلي بحكمة هي مما لايقدر عليه السريع التكيف الذين سيبدون سريعي العطب بعد ذلك، لم تخف من المرض الذي أصابها، والذي جعلها تفقد قوة جسمها شهرا بعد شهر. كانت تقول لي ان الانسان سيموت وأن ذلك حاصل لامحالة، هذا الكلام الشائع جدا أو العادي جدا كانت تستطيع أن تقوله كأنه حكمة اختصت بها وحدها، وقد بدا لي أنها حقا لاتخاف من الموت، بل وانها لاتخاف من ضعف وظائف جسمها. ومن هنا، أي أنني مع تقدمي في العمر اكتشفت أنني أقرب إلي أمي مني إلي أبي. وهو بعد مماتها بدا فاقدا التوازن وفاقدا الخبرة التي تمكنه من الاستمرار في العيش، طبعا هذا مخالف لسطوته عليها وقوته الظاهرة أمامها، تلك القوة التي أدركت كم أنها هشة مقابل سكون أمي وضعفها الظاهري.الرواية الجديدة عنها، ويكاد أبي الا يكون موجودا فيها، علي الرغم من أن هذا الكتاب كان ينبغي أن يكون نصفه له.. انه مرثية للحياة، وفي نفس الوقت تاريخ شخصي للنبطية مرويا، أو متخيلا، علي لسان أمي ومن انشائها، لقد تنقلت بين أماكن كثيرة، وفقدت جميع من كانوا أقرباء لها أو جيرنا. بعضهم مات، بعضهم هاجر، بعضهم أخفته الحرب في طية من طياتها قبل أن تدخل المستشفي وينغلق عليها باب غرفة العمليات. كانت تقيم وحدها هناك في البيت الكبير.الرواية اذن.. سيرة حياة أمي مروية بلسانها، هي التي كانت تعتقد انها لاتملك شيئا مهما لتقوله!
هل يعني هذا أن الجنوب اللبناني بدأ يعرف طريقه للوجود من خلال الرواية، خصوصا اذا علمنا أن هناك أكثر من عمل روائي مسرحه الجنوب، مثل 'مريم الحكايا' لعلوية صبح ورواية حنان الشيخ الأخيرة 'حكايتي شرح يطول'؟الكاتبتان اللتان ذكرتهما كلتاهما من الجنوب، مثلما أنا. هذه المرة لايظهر الجنوب مكانا للمواجهة أو للقتال، بل مكان للعيش، في تأريخ أمي الموصوف أعلاه تأتي الحرب إلي النبطية مارة بها مثل خراب أو بلاء، في الادب السابق عن الجنوب كان لايري من المكان الا قتاليته ومواجهته، دائما تجد الأدب محاولا الابتعاد عن الهتاف المتعالي من حوله. ربما كانت الكتب التي ذكرت هي محاولة للقول أن هذا الجنوب مكان للعيش أيضا، وقد نسي المحاربون رافعو الرايات والألوية أنه كذلك.وكان هذا دافعي أيضا لكتابة روايتي الاولي 'بناية ماتيلد'، فقد كانت هيمنة السياسة وسلاحها وأفكارها شديدة علي بيروت إلي درجة جعلت أهل المدينة مختبئين في الظل، خائفين أن يرفعوا رؤوسهم، فيما حملة السلاح يبدو محتلين المدينة وموجودين فيها وحدهم. بناية ماتيلد كانت احتجاجا علي هؤلاء الذين كما تعلم تلاشوا بعد انقضاء الحرب وسريعا ما تبدد ذكرهم.في العودة إلي الكتابين اللذين ذكرتهما أعلاه ما يجعلني اندهش حقا من كون هذه الكتب وكتابي أيضا، عادت إلي الأمهات. وقد علمت مؤخرا أن المجلة البريطانية (جرانتا) المتخصصة في اعداد الملفات أصدرت أخيرا ما يقرب أن يكون كتابا كاملا عن الأم. أجدني وكأن العالم كله انتبه فجأة إلي الامومة. تلك التي ربما تذكر بأن الناس لم يعودوا كما كانوا، كما لو أنهم انتقلوا إلي أحضان أمهاتهم هاربين من عقائد القوة والعملية التي شبعوا من طغيانها عليهم كأن هؤلاء الناس ذهبوا إلي ذلك الجزء الأضعف من شخصياتهم في نزوع يلزم أن نفكر لكي ندرك أسبابه الحقيقية ربما.
هناك أيضا ظاهرة أخري، وهي ما أطلقنا عليه هنا في مصر الانفجار الروائي أي صدور أعمال روائية لاحصر لها، وهذه الظاهرة غير مقصورة علي مصر فقط كما تعلم بل في بلدان عربية عديدة ما السبب في رأيك؟كنت أعزو ازدهار الرواية في لبنان إلي الحرب. قبل ذلك كنت أقول بأن لاشيء يجري في لبنان حتي نكتبه رواية، قبل الحرب كنا ننتظر سنوات ثلاث أو أربع حتي نقرأ عن رواية جديدة، الآن باتت الحالة مختلفة، كأن كتلة الحرب انفجرت وتشظت وباتت مخاوفها وخيالاتها ومآسيها مكتوبة بأقلام روائيين كثيرين.لكنني بعد أن رأيت ان هذا ليس حال لبنان وحده، كان علي أن أبحث عن أسباب اضافية لازدهار الرواية، أقول أحيانا انها حيثما تكتب تشكل خروجا واحتجاجا علي العقائد السياسية ذات الطبيعة الانفعالية التي انخرطنا فيها سنوات. الرواية مؤشر مبكر علي انفراط تلك العقائد التي كان يليق بها كثيرا الشعر الحماسي والأغنيات الحماسية، كتابة الروائية تسعي إلي رفع الأزمات ونشرها علي أسطح المجتمعات التي غلبها الزعم بأنها متجانسة وبأن أهلها كل واحد. ربما يستطيع واحدنا أن يربط بين ظهور الروايات بالاسباب السياسية التي أدت إليها، لكنني لا أجد هذا مهما علي أي حال، فقط أري أن البشر في وجداننا بدأوا ينظرون إلي أنفسهم ويفكرون فيما يرونه، وهذا في اعتقادي سبب كاف لظهور السير والروايات.فجأة، في وقت ما من عام 1982 بدأت أقرأ روايات عربية يغلب عليها طابع الاحساس بالجسم وبتذكر الطفولة وحميميتها مع الاهل، بدأ ذلك وكأنه انفجر لحظة واحدة لدي كتاب كثيرين، قبل ذلك لم تكن هذه الحساسية موجودة في الادب العربي الحديث. وكان هذا أيضا دالا علي انفراط الحكاية وتحول الكتابة إلي قيمة في ذاتها بصرف النظر عما يصنع من الرواية رواية، ذلك التحسس بدا لي وكأنه خطوة أولي نحو النظر إلي الذات وإلي التاريخ الشخصي.. هذا كان يحدث في مصر كما في لبنان كما في المغرب في تزامن لافت.
إذن.. أين الشعر.. هل الرواية احتلت مكان الشعر؟في كل مكان تجد من يقول ان الرواية حلت محل الشعر. وكنت أعتقد بذلك أيضا مادام شعراء أعرفهم مكرسين، مالوا إلي كتابة الرواية، مؤخرا دعاني زميلي وصديقي يوسف بزي إلي ملتقي شعري يعقد في مقهي بيروتي كل نهار جمعة، عرفني هذا الملتقي علي شعراء جدد كثيرين شبان، إلي الحد الذي جعلني أقول أن الشعر يسترد المبادرة. كانوا كثيرين ومتنوعي النبرة، وقد سألني واحد ممن كانوا هناك في ذلك اللقاء إن كان ما أراه يدل علي عودة الشعر، مذكرا إياي بأن هذا الجيل الجديد ليس فيه من هو مقبل علي كتابة رواية.أحببت ذلك الشعر، لكنني وجدت فيه قدرا من التفلت والسخرية والانقلاب علي الجد مما جعلني أضم الشعر نفسه إلي ما يسخر منه هؤلاء الشعراء الجدد، ذلك الشعر اذن كان أقرب إلي الانقلاب علي الشعر أو التحدي لتاريخه، وإذ طلب مني بعضهم أن أقرأ قصيدة للسياب الذي يعرفون كم أحب شعره، علق بعض منهم علي شعر السياب بالقول: إنه قديم وقد انتهي غرضه. لا أعرف أين ينبغي أن نضع ما يكتبه هؤلاء الشعراء الجدد، وإلي ماذا ستفضي هذه الكتابة، لكن ينبغي أن أقول هنا أن في ذلك الشعر قدر من النثرية المتعمدة أجدها مشتركة بين الشعر نفسه، والنصوص القصصية والروائية. كأننا ازاء مخيلة كتابية واحدة، وان كان هذا الشعر الساخر الهازيء يبدو متقدما علي سواه من عناصرها، ذلك أن فيه تلك الجدة اللامعة التي تسرق الضوء مما عداها وترده قديما في لحظة واحدة.دائما تكون للسخرية هذه القوة الناضحة التي ترد ما يعاصرها إلي زمن فائت قديم، ربما يمكنني ألا أسمي هذا شعرا. الأصح أن نقول أننا نشهد موجه من الاقبال علي التعبير. فهؤلاء الشعراء الشباب لم يأتوا إلي شعرهم من الشعر، بل من شعورهم بأن القول يكون أفضل كلما تمكن من التحرر من أي إرث سبقه، لاحظ مثلا أن السينمائيين باتوا يميلون إلي الكتابة ألاحظ مثلا اتساع دائرة الراغبين في قراءة ما يكتبونه علي دائرتهم الضيقة ونشره تاليا في الصحف، ما نشهده الآن فيما أحسب هو ذلك الميل إلي التعبير سواء كان ذلك شعرا أو كتابة نصية أو قصصا أو غير ذلك.
وهل هناك سمات أخري لشعر الشباب؟الاحتفال بالتفكك. الصورة المركبة التي طالما أغرمنا بها في شعر السياب من قصيدته أنشودة المطر، والتي هي:عيناك غابت نخيل ساعة السحرأو شرفتان راح ينأي عنهما القمرعيناك حين تبسمان تورق الكروموترقص الأضواء كالأقمار في نهريرجه المجداف وهنا ساعة السحرفينبض في غوريهما النجوموتفرقان في ضباب من أسي شفيفهذه الصورة التي تبدو لامتناهية هي أكثر ما أراهم يعافونه من الشعر، يريدون الكلام أن يكون فجا سريعا منقسما علي نفسه غير واعد بالتماسك، فهذه ميزات باتت من متاع جيلنا القديم، نحن الذين كنا هكذا نحب الشعر متدفقا متواصلا ومتماسكا في الوقت نفسه، يخيل إلي أن نقول ان هؤلاء الكتبة هم زعران الأدب وحرافيشه كما تقولون أنتم في مصر.
لك تجربة طويلة ممتدة في الصحافة الثقافية والآن أنت مسئول عن ملحق 'نوافد' الاسبوعي في صحيفة المستقبل اللبنانية.. هل نتحدث عن هذه التجربة في الصحافة الثقافية؟في يوم ما من عام 1980 قال لي طلال سليمان صاحب جريدة السفير ورئيس تحريرها أن أتولي تحرير الملحق الثقافي الاسبوعي للسفير ولم يمهلني الا أربعة أيام أو خمسة، كنت بلا تجربة في هذا المجال، اذ أن عملي في صحيفة النداء اقتصر علي الكتابة، كما أن النداء لم تكن صحيفة أولي علي أي حال. أذكر أن ما كان يشغل لبنان واللبنانيين آنذاك هو رؤيتهم لبلدهم يفقد تدريجيا مقومات وجوده السابق كان فيهم حنين أي الزمن الذي سبق الحرب.في غمرة ذلك قام، رجل اسمه جورج الزعني بعمل معرض للصور الفوتوغرافية ودعا أهل بيروت جميعا إلي المساهمة فيه عبر ارسال صورهم العائلية، كان ذلك احتفالا عاما أو احتفالا أول يشترك في اقامته اللبنانيون جميعا حيث علقت آلاف الصور علي جدران ذلك المعرض، وأنا بجريدة السفير نشرت صفحة كاملة من تلك الصور مشاركا بذلك في الاعلان عن بدء عصر الحنين، ذلك الذي استمر سنوات بعد هذا.. منذ هذه اللحظة لم أقسر الصفحات الثقافية علي المواد الادبية والفنية وحدها.وقد بقيت أري أن الثقافة أوسع من الكتابي أو الفني الخالص الذي درجت الصفحات الثقافية علي الاقتصار عليه. وفي ملحق نوافذ الذي بدأت في اصداره مع الزملاء منذ أربع سنوات درجت علي جعل التفكير الثقافي شاملا لنواحي الحياة جميعا: الأدب والفن والعمارة وطرق العيش وتزيين البيوت وهجرات الناس مع ما يتصل بذلك من تغير في الذهنيات وكل ما يمكن أن يكون أشياء متغيرة في الحياة.والحقيقة أنني لم أخترع هذا الاتجاه في اشتمال الثقافة علي ما نعيشه، اذ سبقتني إلي ذلك كتب ومجلات كثيرة متخصصة تصدر في بلدان العالم. ثم انني رأيت ان اقتصار التفكير الثقافي علي ميادين محددة أم ينتسب إلي هيمنة السياسة التي تعين للثقافة وظيفة محددة.لعلي أري في التوسع الذي ذكرته أعلاه قدر من الاحتجاج علي تلك الهيمنة السياسية نفسها التي جعلت العالم ضيقا، ربما تذكر مثلي كيف أننا علي مدي عقود لم يتحرر تفكيرنا من مقولات الاستعمار ومواجهته والامبريالية والتصدي للرجعية.. كان هذا كل عقلنا، أو هكذا أريد لنا، حتي أن صديقا لي في بيروت قال لي مرة: ان تلك الهيمنة السياسية بلغت حدا جعل الاطباء العرب الذين اجتمعوا في بيروت يصدرون بيانا في ختام اجتماعهم، يدعون فيه إلي التصدي لكل محاولات الهيمنة التي تقوم بها القوي الرجعية المتحالفة مع الاستعمار!ذكرني هذا الصديق يومها أن هؤلاء الأطباء نسوا أن يعلقوا ببند واحد علي الجسم العربي وامراضه! هذا المجال الضيق لم يرض به أسلافنا العرب، لقد كتبوا عن الصيد بالبازي مثلا كتبا كثيرة، وكتبوا في الطب والفلك وعلم النجوم وتشريح الاعضاء والفقه، وإلي ما يتعدي هذا كتبا يصعب حصرها.كان علينا اذن أن نخرج مما وضعنا أنفسنا فيه في الصفحات الثقافية التي أصدرتها مع زملاء آخرين، كنت أحاول وان علي ذلك النطاق الضيق أن أخرج من الضيق الذي وضعنا فيه.
لابد اذن أنك تتابع الصفحات الثقافية في مختلف الصحف والمجلات، كما تتابع 'أخبار الأدب'.. ما رأيك فيها؟هناك طبعا صفحات وملاحق ثقافية كثيرة ساعدتنا علي تقريبنا مما يجري في الأدب. ملحق النهار مثلا في أواخر الستينيات كان زادا يوميا لنا، وأري أننا من دونه كنا سنضيع، بل ان هذا الملحق شكل، رأيا عاما ثقافيا في ذلك الوقت، صحيفة السفير ايضا التقط ملحقها الثقافي لحظة ثنائية هامة في سنوات الثمانينيات مما أتاح ظهور رأي عام ثقافي جديد. في مصر مثلا أري أن قيام مجلة خاصة بالأدب خطوة تستأنف تلك المتابعة الصانعة لرأي عام أدبي وثقافي، وربما كانت توسيعا لتلك المحاولات الكثيرة التي سبقت، في لبنان مثلا حيث أعيش، لا أعرف كيف كان يمكن وصول الثقافة المصرية إلينا أو عودتها إلينا من دون أخبار الأدب.
هل نتحدث عن علاقتك بالثقافة المصرية؟أول ما كنت أقرأه خارج كتب القراءة في المدرسة مجلة سمير التي كانت تصدر في مصر متوجهة للأطفال. كنت في العاشرة من عمري حين كنت أنتظر ابتداء من بعد ظهر كل خميس أنتظر أخي ليأتي لي بالعدد الجديد من تلك المجلة.في السنوات التي تلت، كانت الثقافة هي ما يأتي من مصر: طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ الذي قرأت له وأنا مازلت قبل عمر المراهقة ما يزيد عن العشرين كتاباوكذلك لاحسان عبدالقدوس ويوسف ادريس وغيرهما. الأغنيات أيضا كانت تأتي من مصر وكذلك السينما التي نعرف كلما كبرنا انها لم تكن أمرا عارضا في حياتنا. أستطيع القول أن جيلنا، القاريء بالعربية، كان جيلا مصريا ثقافيا. طبعا قرأنا كتبا مترجمة، وحتي هذه كانت تأتي من مصر.أدركت في فترة لاحقة ان هذا لم يكن خاصا بلبنان وحده، وان القراء العرب جميعهم كانوا يرون الثقافة قادمة من مصر، ربما ما تغير الآن هو كوننا أكثر اتصالا بالثقافة المترجمة، وأحسب أن المصريين اقبلوا مثلنا علي ذلك، فالثقافة التي تأتينا من الخارج تقترح علينا أنساق التفكير وأبواب التخيل ولا أجد هذا سيئا.وانطلاقا من كوني متعلقا بالثقافة المصرية أجد أنني أحب أن أكون موجودا في حركتها، يقول لي الأصدقاء هنا أن كتبي لم تصل. أو أنها مرتفعة الثمن علي القاريء المصري. أيضا حين أتعرف علي شخص جديد يقول لي: أنت صاحب بناية ما تيلد.. هذه التي كنت قد نشرتها منذ 22 سنة، وقد أصدرت بعدها بالطبع ثمانية كتب.في مرات أقول بأن خطوط التواصل كانت أكثر انفتاحا في زمن بناية ماتيلد ذاك، وفي مرات أخري أقول أن الفضل في معرفة بناية ماتيلد يرجع لكونها نشرت في طبعة شعبية في مصر، بعضهم يقول ان المصريين مكتفون بأنفسهم أو بأدبهم، وهذا طبعا ما لا ألاحظه الآن حيث ان الروائيين العرب لم يجتمعوا في مكان كما يجتمعون في القاهرة.أما عن انطواء مصر السابق علي نفسها فيمكن أن أرده إلي انطواء كل الدول العربية علي نفسها أيضا. وهذا ما حصل في أثناء الحرب الأهلية في بيروت التي كانت دور نشرها قبل اندلاع الحرب تلعب دور واسطة الاتصال بين القراء العرب وكتابهم، لقد انقطع ذلك بسبب حرب لبنان وقيام دور نشر في معظم الدول العربية. لا أخفيك مثلا أنني لا أعلم بما يصدر في المغرب مثلا من كتب، مؤخرا صارت تصلنا الكتب التي تصدر في سوريا، كتب مصر انقطعت سنوات عنا ولم نعد نقرأ للمصريين إلا من تطبع كتبهم في بيروت. لا أحسب أن أسباب هذا التنوع أو التشتت يرجع فقط إلي انهيار وظيفة النشر في بيروت خصوصا حين الاحظ أن الانكفاء بات حاجة سياسية ووطنية لكل دولة من الدول العربية، تعرف كم شهدنا من مواجهات بين هذه الدول بعضها ضد بعض وكل جار عربي خاصم جاره العربي، مما خلق تلك النزعة المخالفة لزماننا، حيث كنا لانجد ضيرا في أن ننسب إلي ثقافة مصر مثلا، نحن الذين في لبنان.
نعود إلي عملك بوصفك محررا ثقافيا، له تجربة طويلة في هذا المجال.. ألا يحدث التباس ما أو تناقض بين هذا العمل وبين وجهك الآخر كروائي له عدد كبير من الأعمال الروائية وموجود علي الساحة الأدبية بهذه الصفة؟أنا أري أنه كان من الممكن أن تفوتني الكتابة لو لم أعمل في الصحافة. صحيح أنها كانت هاجسا وشغفا منذ طفولتي، إلا أن هذا كان حال الكثيرين ولم ينته بهم الأمر إلي أن يصيروا كتابا، الصحافة الثقافية أبقت في ذلك الشغف، بل وجعلتني مقيما بين الكتاب، واحدا منهم، متابعا لكتاباتهم في أول الأمر، ثم كاتبا مثلهم.كذلك تعمل الصحافة الثقافية علي تحرير الكاتب من العزلة والجمود، الخطر الأكبر يتأتي من بقاء الكاتب من زمنه الأول أو ثقافته الأولي متعصبا لها ومقيما فيها، كونك في الصحافة الثقافية أمر يحفزك علي أن تكون في الجديد، ويذكرك دائما بأنك ان تخلفت عنه، ينبغي عليك أن تستلحق ما فاتك. لا أعرف ان كانت هذه تجربة الجميع، خصوصا وأن أكثر الكتاب هم مثلي ومثلك يشتغلون في الصحافة الثقافية. ورأيي أن هذه المهنة هي أفضل المهن للكاتب، فيما يستطيع ألا يكون زائدا عن الحاجة.أذكر هنا الجيل الذي سبقنا والذي اشتغل في مهن التعليم مثلا، حيث كان كما ذكر لي كثيرون من كتابه، انهم كانوا لايفعلون شيئا في الوظيفة الا كتابة كتبهم، لا أخفيك أنني أدركت هذا الجيل وكنت مثله أكتب رواياتي في غرفة النظارة بإحدي المدارس الثانوية.










vendredi 29 juin 2007

لحظة رامبو وإضافته





لحظـة رامبـو وإضافتـه


كاظم جهاد


يشكّل عمل رامبو الشعريّ، في قصائده الموزونة كما في قصائد النّثر، وحدة متصاعدة ومتكاملة. ثمّة إحالات دائمة تمارسها القصائد والأبيات والرّموز بعضها إلى البعض الآخر، فيضيء بعضها البعض أو ينقضه أو يساهم في تطويره. وكما سيرى القارئ، فإنّ هذه الإحالات المتبادلة تمدّ الشّراح بعون كبير لفهم مقاصد رامبو في مواضع متفرّقة من عمله. وتعمل الإحالات الرّامبوية والإضاءات المتبادلة طرداً وعسكاً: فيمكن أن يعود في فترة لاحقة بعيدة نسبيّاً في الزّمن إلى هاجس قديم أو صورة قديمة ويضيف إليهما لمسة جديدة، تمارس عليهما إثراءً أو تحويلاً. كما يمكن أن يطمئنّ لكونه أنضجَ بما فيه الكفاية رمزاً ما أو دلالةً ما فيكتفي في مناسبة تالية بذكرهما أو تسميتهما. من هنا تفرض نفسها ضرورة القراءة الآفاقيّة التي تشغّل الذّاكرة إلى أبعد حدّ وتقرأ العمل ككلّ متماسك. وبهذا الالتمام للعمل على نفسه توفّر آثار رامبو صورة «حاسوب» ثريّ تتفجّر لمسة واحدة على أحد نوابضه عن إمكانات متعدّدة وتضافرات عميقة، أشبه ما تكون بـ«النّقرة على الطّبل» التي «تغيّر الحظوظ» في قصيدته «إلى عقل» («إشراقات»). هو «حاسوب» من نوع هذا الذي يرى الفيلسوف جاك درّيدا أنّ عمل الآيرلنديّ جيمس جويس James Joyce يتوفّر عليه. هذه الطّبيعة المتكافلة لجميع أجزاء العمل سمحت لقرّاء رامبو، من شرّاح ونقّاد وفلاسفة، بتسمية حركيّات شكليّة أو مضمونيّة وشبكات معنويّة وإيقونيّة تخترق الأثر كلّه ويُتيح «تعقُّبها» القبض على بعض أهمّ حوافز رامبو وعناصر رؤيته الواعية وغير الواعية لنفسه. من هذه الشّبكات التّصويريّة أو الدّلالات الكبرى، صورة «العامل» ouvrier التي فرضها رامبو على الشّعر، وما كانت المفردة نفسها لتُعتبَر قبله شعريّة ولا أحد يغامر بإدخالها في قصيدة. في «العامل» رأى رامبو شبيهه الحقيقيّ، مهما كان من إعلاناته المتوالية عن محبّته للكسل، وفي «الشّغيلة» لمحَ صفوف «العبيد الجدد» وطعام مَدافع الحروب الحديثة. جعلَ منهم في «الحدّاد» أبطال الحدث التّاريخيّ، وأعلن في «شعراء السّابعة» عن توقيره لهم إذ يعودون في ثياب العمل إلى القرية، وفضّل مشهد عودتهم هذا على المَشاهد الدّينيّة. وفي قصيدته «باريس تُأهَل من جديد»، رأى في عمّال «سيفْر» و«مودون» وسواهما أحد أجمل وجوه باريس المنتفضة، وفي «فكرة طيّبة للصّباح» يتوسّل فينوس أن تغادر العشّاق قليلاً لتعنى بالعمّال وتأتيَهم بـ«ماء الحياة». هناك أيضاً صورة هذا «المارد» ذي الطّبيعة الشّديدة الخصوصيّة، الذي يخلع عليه رامبو صفات «الجنّي» génie محوّلاً إيّاها إلى سِمات إنسانيّة، بما يمنع من ترجمة الكلمة إلى «جنّي»، ويدفعنا إلى ترجمتها إلى «عبقري». هذا الكائن الذي يُصوّره رامبو حائزاً على قدرات خارقة هو عارِف ذو سلطان تحويليّ، ومخلِّص بلا هالة دينيّة ولا خرافة. يجسّد في ذاته الفتنة الخارقة والعِلم الواسع والحنان المديد، ويأتي بصيرورة حبّ وعافية، ويعمل بكونيّة تتجاوز حدود الإنسانيّ، ويسعى لتحقيق نهاية الأوهام والتّطيّرات، ويجترح «الجسد الشّائق» و«التّناغم الجديد». المرأة هناك أيضاً المرأة، التي ربّما كان رامبو هو الشّاعر الذي ترك عنها الصّورة الأكثر تعقيداً وتلوّناً وعمقاً، آخِذاً إيّاها في وجوهها المتعدّدة، وجه الأمّ القاسية («شعراء السّابعة»)، والأمّ المهجورة من لدن بعلها والتي يُعيرها الشّاعر كآبة النّهر بُعيدَ غياب الشّمس («ذاكرة»)، وابنة الجيران الصّبيّة اللاّعبة («شعراء السّابعة»)، و«الفتاة الآسرة الحركات» («رواية»)، والنّادلة المرِحة الطّامعة بقُبلة («الماكرة»)، وصاحبة اللّمسات الحَنون المُنعشة للكيان («المفلّيتان») والمعشوقة الهاربة («ردود نينا القاطعات»)، وأخت الرّوح البعيدة المنال (القصيدة نفسها و«الأخوات المُحسنات»)، ومناضِلة «الكومونة» وعاملة العصر الحديث («يَدا جان ـ ماري» و«باريس تُأهَل من جديد»)، والفتاة المُتَرهبِنة المُصادَرة منها رغبتها («المَناوَلات الأولى»)، و«العذراء الحمقاء» التي يدفعها غموض «البعل الجهنّمي» وشرطها التّاريخيّ نفسه إلى الهذيان والمازوخيّة والجنون («فصل في الجحيم»)، ورفيقة النّزهات السّوداويّة («عمّال» وسواها في «إشراقات»)، والمليكة المتوَّجة نهاراً بأكمله هو ولا شكّ نهار تحقيق للرّغبة ولـ«إشباعها الجوهري» («ملوكيّة»، «إشراقات»)، و«مصّاصة الدّماء» التي تمارس فعلَ غواية وإخصاء («حالة ضِيق»، «إشراقات»)، وهيلانة الغامضة التي تفرض سِحرها بعدَ المرور باختبار «التّأثيرات الباردة» («عالَم شائق»، «إشراقات»). ذهبَ رامبو في استكناه وجوه المرأة أو وجودها أبعدَ ممّا فعلَ بودلير الذي كانت الرّغبة مسكونة لديه بالإثم، في حين عملَ رامبو على إلغاء الإثم وإزالة الشّعور بالخطيئة الأصليّة. أحبّ في المرأة سيولتها، طبيعتها النّسغيّة، وصوّرَ إلهات العالم القديم سابحاتٍ في بيئتهنّ الغابيّة ـ المائيّة، ورأى في طمث المرأة علامة خصوبة أعارها للأرض التي نظر إليها هي أيضاً كجسد امرأة («الشّمس والجسد»). كما قلبَ منظور الثّنائيّ العشقيّ أو مثنويّ الذّكر والأنثى، وبدلَ النّظرة القديمة أو الشّائعة التي ترى في المرأة حاملة للرّجل، صّورَ هو الرّجل حاملاً لهواها ومتكبّداً إيّاه كمأساة أو عذاب حقيقيّ («الأخوات المُحسِنات»). في القصيدة نفسها يصّور المرأة «عمياء غير مستيقظة ببؤبؤين مَديدَين» ويُذكّر بـ«الفظاظات المتكبَّدة (من لدنها) بالأمس» (مهانة شرطها التّاريخيّ). ثمّ إذْ ينعتها، في النصّ نفسه، بـ«كدْسة أحشاء»، فلا لكي يقدّم صورة حاطّة عن جسد المرأة، بل بالعكس ليُشير إلى معطوبيّته وانجراحه وهشاشته. النجاسة بين شبكات الصّوَر العميقة الدّلالة يشير ألان باديو في دراسته المذكورة إلى تلميح رامبو إلى «الذّبابةِ الثّملةِ في مبْوَلةِ النُّزلِ، عاشقةِ زهرِ لسانِ الثّورِ، التي يُذيبها شعاع» («خيمياء الكلمة»، «فصل في الجحيم»)، وإلى تشبيه رامبو للحرف الأوّل من الأبجديّة اللاّتينيّة (A) بـ«البطن الأسوَد لذُباباتٍ ألِقة / تطنُّ حولِ نتاناتٍ فظيعة» («حروف العلّة»). هناك أيضاً «المئة ذبابة قذرة» التي تبعث حوله، هو العطشان الجائع، «طنينها الصّارخ» في «أغنية البُرج الأعلى». كما يتذكّر رامبو في كنائس «المُناوَلات الأولى»: «ذباباً تفوحُ منهُ رائحةُ الاصطبلاتِ والنّزْل / يظلّ يلتهم شمعَ الأرضيّة المُشمَّسة». وفي «شعراء السّابعة» يصوّر الصبيّ رفاقه («أُلاّفه الوحيدين») كما يأتي: «بؤساءُ هُم، عاريةٌ جباههم، أعيُنُهم منْسفِحةٌ على الخدَّين / ويُخفونَ أصابعَهم النّاحلةَ المُصْفَرّةَ أو المُسْوَدَّةَ من أثر الوحْل / تحتَ ثيابٍ باليةٍ تنبعث منها رائحةُ غائط». وقريب من هذا موقف الصّبيّ المتحدَّث عنه في القصيدة ذاتها (رامبو نفسه)، الذي يعتصم في «نداوة بيت الرّاحة»، حيث يروح «يُفكّرُ، بِدِعَةٍ، مُرهِفاً منخرَيه». بيت يتّخذ كاملَ دلالته إذا ما نحن تذكّرنا أنّ هذه واحدة من وسائل الصّبيّ في الهرب من حصار المنزل العائليّ وصرامة الأمّ. والنّبرة الوجوديّة نفسها نجدها في تصوير مخاوف الفتاة المُترهبِنة عشيّة تخرُّجها في دروس التّعليم الدّينيّ في «المُناوَلات الأولى»: ففي اللّيلة الحاسمة تلك، التي يتجلّى فيها يسوع لخيالها الحالِم المؤرَّق، تكتنفها اضطرابات وحمّى عالية وتكون «أمضتْ ليلتها المقدَّسة في بيتِ راحة». هذه المعالجات ينبغي عدم الاستهانة بها ولا عزْوها إلى رغبة بسيطة من لدن الشّاعر في اجتذاب القصيدة إلى مجال المدنَّس، رغبة قد تكون مدفوعة بإرادة تحطيم مهابة القصيدة الكلاسيكيّة والرقّة المفرطة التي تميّز الشّعر الرّومنطيقيّ. في كتابات بعض المتصوّفة ورهابنة الصّحراء نجد أيضاً هذا الانهمام بامتحان الجسد وبموضوعات القذارة والتلوّث. إنّ رامبو يدشّن هنا، كما يُذكّر به باديو، معالجة أدبيّة ستنتشر بصورة باذخة في كتابات صامويل بيكيتSamuel Beckett وجان جينيه Jean Genet وآخرين من كتّاب القرن العشرين. بارتداده إلى عفنه أو عفن العالَم، واختراقه عوالم النّجاسة، وبإبرامه ما يدعوه رانسيَير «التّحالف مع البلاهة»، بلاهة «الرّفيقة المتسوّلة» و«الطّفلة المسْخ» في «عِبارات» («إشراقات»)، وبلاهة رفاقه الصِّبْية «المنسفحة عيونهم على الخدَّين» في «شعراء السّابعة»، يجرّب الكائن الرّامبويّ إمكان تساميه ويصبو إلى شيء من القداسة. إنّه يُقيم فردوسه العائمة على الأنقاض، أو، بتعبير باديو، «جنّة عدْنٍ من نجاسة وماء أسوَد، من الوحل والبول». وحْل يقول هو نفسه في «ذاكرة» إنّه عالق فيه، عاجز عن الاختيار وتحديد مَساره: «قاربي واقفٌ أبداً بسلسلتهِ المجذوبة / في قلبِ هذه العينِ من ماءٍ بلا ضفافٍ ـ في أيِّ وحل؟». كما توقفنا عبارة من «خيمياء الكلمة» («فصل في الجحيم») على هذه العلاقة الحميمة التي يراها باديو بين الرّغبة السّوداء أو الواقع الأسوَد ونور الكينونة: «كنتُ أتجرجرُ في الأزقّةِ العطِنةِ، ومغمضَ العينينَ أهَبُني للشّمسِ، إلهة النّار». هذا كلّه يقودنا إلى الحركيّات المُفارِقة، حركيّات العُدول المفاجئ واللاّقرار ونفاد الصّبر أو اللّهفة المطلقة والانقطاع والبتر التي يجد فيها باديو ما يشبه «سر» رامبو وأساس امتحانه الكيانيّ والشّعريّ. يشقّ «المركب السّكران» خضمّ البحر الهائج ويحقّق رؤى عجيبة ثمّ، بلا سابق تمهيد، ينكفئ ويشعر بالحنين إلى مشهد بدئيّ بالغ الفقر، مشهد البرْكة والمركب الورقيّ الذي يدفعه على سطحها طفلٌ محزون. وفي «ما تعني لنا يا قلبي؟»، يتكلّم على «دوّاماتِ النّار الغَضوب» و«سيول النّيران» «ومسيرة منتقمة تحتلّ كلَّ شيء»، وعن «براكين تندلع وأوقيانوس يُدَك»، وعن «سود مجهولين» يدعوهم هو إلى «المضي». ثمّ، فجأةً أيضاً، نرى إليه وهو يُعلن: «يا للشّقاءِ! أُحسّ بي مرتجفاً، الأرضُ العتيقة/ (تنطبقُ) عليَّ رويداً رويداً! الأرضُ تذوب»، قبل أن يستعيد صحوه ويقرّر: «وما هذا بذي بالٍ. إنّني هنا. دائماً هنا». في «ذاكرة» أيضاً، يشبّه جريان النّهر بـ«رفيف الملائكة» ثم يُصحّح: «بل هو تيّار الذّهب في مسير»، مُحبِطاً على هذه الشّاكلة إمكان المرجعيّة العُلويّة بمُحايَثة ماديّة. في «فصل في الجحيم»، هذا العمل «المعدول» دون انقطاع، تتلاحق «سينات» المستقبل: «بأعضاءٍ فولاذيّةٍ وبَشرةٍ داكنةٍ وعينٍ غضبى سأعود: من قناعي سيَعدّونني من عرْقٍ قويّ. سأحوز ذهباً: سأكون عاطلاً وفظّاً. (...) سأتدخّل في شؤون السّياسة. سَأنالُ خلاصي»، ثمّ يفاجئنا في سطور أبعدَ بالقول: «لن نُغادر. لِنَسْتَعِدِ الطُّرُقَ التي هيَ هنا، رازحاً تحتَ رذيلتي، هذه الرّذيلة التي مَدّتْ، منذُ سنّ الرّشدِ، جذورَ عذابِها إلى جانبي». وكثيرة هي نصوص «إشراقات» التي نرى فيها إلى صاحب «خيميائيّ الكلمة» وهو يشرع بابتكار «جسدٍ شائق» أو «تناغمٍ جديد»، ثمّ ينكفئ في مجرى محاولته ويُعلن عن انتهاء المشروع («كائن جميل»، «أزهار»، «بربري»، إلخ.). نثر العالم هذه النّزعة اللاّ ـ قراريّة، هذه الـ«لا» غير الجدليّة، بتعبير باديو، التي تأتي لتُلغي وهمَ إمكانِ قولِ العالَم بكامل شفافيّته، والتي ترينا «نثر العالم» وهو يهدّد الحضور ويجعل الحضورات حبلى أبداً بالغيابات الأكثر صعقاً وإفجاعاً، هذه النّزعة ترتبط بالزّوج المتعارض، زوج الصّبر ونفاده لدى رامبو. فهذا الذي وضعَ أربع قصائد تحت العنوان الشّامل والبعيد الدّلالة: «أعياد الصّبر»، نراه يجمع في أُولاها بين «الصّبر» و«السّأم» («أعلام نوّار»)، ويصرّح في الثّانية: «ذقتُ من الصّبر / ما لنْ أنسى» («أغنية البُرج الأعلى»)، ويقرّر في الثّالثة: «أنْ نعلمَ ونصطبرَ / لهوَ عذابٌ أكيد» («الأبديّة»). ذلك أنّ العِلم بالشّيء أو معرفته ينبغي في نظره أن يتحوّل على الفور إلى قدرة إنجازيّة وإلى سلطانِ تحويل. ومع أنّه يكتب في نهاية «فصل في الجحيم»: «مسلّحينَ بصبرٍ لاهبٍ، سنلجُ المدنَ الرّائعة» («وداع»)، فهو لا ينفكّ يعرب عن نفاد صبره أمام العِلم الذي يجد هو أنّه «لا يسير بالسّرعة التي تناسبنا» («المستحيل»، «فصل في الجحيم»). ثمّ إنّ النّعت «لاهب» نفسه يبدو لنا متعارضاً مع «الصّبر». وفي الحقيقة، فإنّنا نجد مفردتَي «السّرعة» و«الوثب» وما ينخرط في حقليهما الدّلاليَّين بين المفردات الأكثر تواتراً في عمل رامبو. هوذا يكتب في «فصل في الجحيم»: «جريمةً بسرعة، لأسقط في العدم، بجريرةِ ناموس البشر»؛ «بسرعةٍ! هل من حيَواتٍ أُخرى؟»؛ «آه! أسرَعَ، أسرَعَ قليلاً؛ هناكَ، أبعدَ من اللّيل»؛ «لو صارَ (فكري) منذُ هذه اللّحظةِ دائمَ اليقظةِ، فسرعانَ ما سنُدركَ الحقيقة»، و«على الفورِ املأْ مقاصيرَ السّيداتِ برَملِ اليواقيتِ الحارق»؛ وفي «عبقري» («إشراقات»): «يا لَسرعتهِ المُرعبةِ في إكمالِ الصَّورِ والأفعال». أمّا عن «الوثبة» فنقرأ، في «فصل في الجحيم» أيضاً: «إنّني أهدي أيّة صورةٍ سماويّةٍ وثباتٍ نحوَ الكمال»؛ «الوثبة الصّامتة للحيَوانِ المفترس»؛ «السُّعاراتُ والجنونُ وألوانُ الفجورِ، هذه التي أعرفُ جميعَ وثباتِها»؛ وفي «إشراقات»: «جميعُ الأساطيرِ تَجُولُ، والوثباتُ تتزاحمُ في البَلْدات» («مدن -II)؛ «تطبيقاتُ الحِسابِ ووثباتُ التّناغُمِ الذي لم يُسمَع بمِثلهِ من قبل» («بَيع تصفية»)؛ «اليقظةُ المتآخيةُ لجميعِ الطّاقاتِ الإنشاديّةِ والأوركستراليّةِ وتطبيقاتِها الفوريّة»، (النصّ نفسه)؛ يا لَوثبة مَلَكاتنا («عبقري»)؛ «نقرةٌ من إصبعكَ على الطّبلِ تُحرّرُ جميعَ الأصواتِ ويبدأُ التّناغمُ الجديد / خطوةٌ منكَ وينهضُ الرّجالُ الجُددُ ويشرعونَ بالسّير» («إلى عقل»)؛ «لا نقدرُ أنْ نقبضَ على هذه الأبديّةِ على الفور» («صبيحة سكْر»)؛ «بقفزة واحدة نأتي إلى الخشبة» («رسالة الرّائي الثّانية»). هذه الوعود بتحويل فوريّ وهذه الشّكوى من عدم التمكّن من القبض على الأبديّة في وثبة واحدة والبرَم ببطء العِلم، والشّعور بالانهيار السّياسيّ المطلَق حالَ انسحاق «كومونة باريس»، هذا كلّه يشي بطبيعة رامبو: كان يصبو إلى تجاوز يتمّ بسرعة البرق ويهفو إلى القصيدة التي تقول دفعة واحدة جميع القصائد. ومن حسن حظّنا أنّ شعوره المتكرّر باستحالة ذلك جعله يُعيد المحاولة غير مرّة، مازجاً على هذا النّحو، في صيغة مُفارِقة، بين الصّبر ونفاده، بين الحاجة إلى الفوريّة وإرادة العمل. كما دفعه ظمؤه للمطلق وللقصيدة الكليّة إلى الطّلوع كلّ مرّة بقصيدة تتجاوز سابقاتها من بعيد. سوى أنّ اللّحظة تأتي، كما يعبّر ألان باديو، التي يفرض فيها القرار نفسه ويرتسم على خلفيّة اللاّقرار هذه. اللّحظة التي ينقلب فيها نفاد الصّبر على نفسه ويتحوّل إلى نفاد صبرٍ... من عدم الصّبر (كما نقول: ملل من الملل). آنئذٍ ـ وكم في هذا من السّخرية المُرّة! ـ يكون كلّ حلّ مناسباً، خصوصاً أهوَن الحلول. يرى باديو أنّ رامبو، بمواجهة الإنجاز الفوريّ المتعذّر، اختار عدم الإنجاز، وكالثّوريّين المتعبَين غادر الشّعر (الذي اعتبرَه هو، في «فصل في الجحيم» «إحدى حماقاته»)، غادره إلى الحياة الغفْل وإلى التّجارة، في نوع من محاولة للقيام بما يمكن القيام به أو لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لم تكن هذه انعطافة مفاجئة ولا قراراً مضادّاً مرتجَلاً، بقدر ما هي تحقّق لخطر الانقطاع والانْبتار الذي كان مشروع رامبو الحياتيّ والشّعريّ يحمله بالأصل. لهذا الباعث يُعلن الفيلسوف عن تفضيله (وتدفعه أمانته الفكريّة إلى التّأكيد على أنّه يقوم بذلك كفيلسوف لا كشاعر)، تفضيله أنموذج مالارمه الذي يقبض على «الأبديّة» بفعلِ عملٍ صابر مستأنَف كلَّ يوم. لا ندري إذا كان ممكناً، من وجهة نظر الشّعر، الاختيار بين الأنموذجين الرّفيعين هذين، وباديو نفسه، عندما يرجع بالمسألة إلى ساحة الشّعر، يُعيد صياغة المقارنة كما يأتي: «من ناحية رامبو، هناك السِّحر اللاّ يُضاهى المتلاشي. ومن ناحية مالارمه، هناك السّيرورة التي في خاتمتها تسطع الفكرة. أنْ نحبّ القصيدة هو أنْ نحبّ التمكّن من عدم الاختيار (بين الأنموذجَين)». وهو يعترف لرامبو بعبقريّة تتمثّل في صياغة نفاد الصّبر و«تعليق ما لا قرار له»، نفاد صبر ولا ـ قرار لا يرى هو فيهما «مزاجاً شخصيّاً ولا علامة على هستيريّة»، بل «مقولة فكريّة» و«إيماءة ثقافيّة تقوم على عدم الاكتفاء بالفعل المحدود» .45 وعليه، فالمسألة قد لا تكون مسألة اختيار بقدر ما هي مسألة تكوين روحيّ وشاكلة كيانيّة. هناك، من جهة، شعراء المُسارَعة في القول الشّعريّ، يقبضون على حقيقة وجَمال شعريَّين كبيرَين بمجهود لاهب وموجز في الزّمن (جون كيتس، لوتريامون، غيورغ تراكل، ورامبو نفسه، وآخرون). ومن جهة ثانية، هناك شعراء الصّبر والأعمال المستأنَفة (شكسبير، ريلكه، مالارمه نفسه، وسواهم). ولكلّ من الأنموذجَين بالطّبع نُسَخُه السلبيّة ومزيَّفوه: شعراء وجيزو الأعمال عن كسل وبلا عمق، وآخرون تفصح ضخامة إنتاجهم الكميّة عن تكرار وعدم تجدُّد. تجديد رامبو ينبغي الإشارة أخيراً إلى ما ستلزم دراسات كاملة للإحاطة به: تجديد رامبو لعمل الأواليّات البلاغيّة والإنشاء اللّغويّ للقصيدة. من ابتكاراته في هذا المضمار، يذكر ميشيل دوغي تعميمه «البدليّة» على صعيد المفردات مثلما على صعيد العبارات، فلا يكون للفعل فاعل واحد ولا مفعول واحد، بل تتعدّد العناصر وتتراكم الأطُر المَرجعيّة. ولا يهمّ رامبو، وهذا تجديد آخر، أن يكون بعض هذه الفواعل أو المفاعيل عائداً إلى مجال التّشخيص والبعض الآخر منتمياً إلى المجرّدات، أو أن يكون بعضها معامَلاً على التّعريف والبعض الآخر على التّنكير، فهذه الفواصل المنطقيّة هي لديه نافلة أو لاغية. هناك أيضاً تجميع الصّفات في سلسلة بعد تقديم الموصوفات في سلسلة أولى، والمعنى أو السّياق هو الذي يحدّد عائديّة النّعت إلى منعوته الصّحيح. يرافق هذا تلاعب بالضّمائر من فرديّة وجمعيّة، مذكّرة ومؤنّثة، وتوظيف أسماء أعلام بعضها غفل (ميشيل وكريستين مثلاً، في القصيدة الحاملة هذين الإسمين عنواناً)، وهذا ممّا يُنعش التّأويل ويحيطه في الأوان ذاته بصعوبة بالغة، بل يقود في حالة رامبو إلى ما يدعوه دوغي «التّأويل غير المتناهي»، وهو ما ينبغي تحاشي الوقوع في حبائله (ولنا إلى هذا عودة). وعلى وجه العموم، فإنّ رامبو يعمل بأواليّات تُخالف ما تعارفَ عليه الشّعر والنّقد. لقد انشغل منظّرو فنّ الشّعر في العقود السّابقة بما دعاه جان كوهين Jean Cohen «الانزياح» écart، من منظور يرى أنّ الشّعر يستمدّ خصوصيّته من مفارقته في لحظات معيّنة للقاعدة أو الشّيفرة اللّغوية المتعاقَد عليها من قِبل المتكلّمين. دوغي يرى أنّ رامبو يجعل بالعكس من الانزياح هو القاعدة. (باريس) [ من مقدمة كاظم جهاد لكتابه «آرتور رامبو ـ الآثار الشعرية» الذي يصدر قريبا عن دار الجمل

عيتاني وهوياته


عيتانـي وهوياتـه .. الكثيـر لمسـتقبل لـم يعـد أكيـداً
عباس بيضون«هويات كثيرة وحيرة واحدة» لا ابالغ إذا قلت إنه رحلة، اذ لا ينتهي القارئ من الـ250 صفحة تقريباً التي اشتملت على الكتاب حتى يكون اوفى على مكتبة كاملة. فكل ما كتب حول المسألة اللبنانية، إذا صحت هذه التسمية، قد حظي بزيارة وقطف منه شيء من زهرته. يبدو الكتاب من هذه الناحية كتاب الكتب ويذكرنا بما ساقه الجاحظ في مقدمة الحيوان تزكية لكتابه من إن كل ما جاء في بابه مجموع فيه. كتاب حسام عيتاني جامع حقاً. شاء لكتابه الاول ان يكون في جانب منه خلاصة لكل أدبيات المسألة. أراد ان لا يفلت منه أي من مرامي المسألة اللبنانية ومباحثها وأغراضها، وأن يقدم للقارئ انسيكلوبيديا صغيرة في هذا الموضوع. هكذا تتعاقب في الكتاب استشهادات من ميشال شيحا، جواد بولس، يوسف السودا، شارل مالك، دومينيك شفاليه، وضاح شرارة، احمد بيضون، جورج قرم، ايليا حريق، سمير خلف، كمال الصليبي، غسان تويني، اسامة المقدسي، توفيق قرم، فواز طرابلسي، ألبرت حوراني، حميد موراني، كمال حمدان، مهدي عامل... الخ. ليست قائمة طويلة فحسب لكن معظم من فيها شخوص دائمون، يغيبون ويحضرون. شأنهم في ذلك شأن عيتاني نفسه. كأن الكتاب حوارية شاسعة لهم وتقاطع ضخم منهم. وإذا تحرينا وجدنا عيتاني يتوارى كثيراً خلف شخصياته هذه او يتكلم بألسنتها، وهو مثلها يغيب ويحضر، يتدخل بحساب ويدير شخصياته بحساب فهو في ذلك اشبه بالمخرج او السيناريست، لكنه في مطرح آخر اكاديمي مر لا تند عنه كلمة الا وتحتها ركيزة راسخة من مراجع او كدس من وثائق. الكتاب مع ذلك لا يعاني من جفاف اكاديمي. يكفيك ان عيتاني بدأ بسيرته العائلية مثالا على سيرة مدينية لبنانية وختم بسيرة بيتية. هذه المقابلة بين سيرة بيت وسيرة بلد ليست برانية. إنها اندراج حياة عائلة في حياة مدينة. هندسة المدينة الاجتماعية وتنوعها ومعاناتها كل ذلك ظاهر في معاناة أسره ويومياتها، بين الميكر والماكرو تراسل وتقاطع. إنه مسرح من منصتين. كأن عيتاني أراد ان يقول إن المدينة جسده الكبير وحياته الأوسع. وأن فيما يتكلم عن لبنان او عن بيروت، فإنما يروي سيرته الجامعة. يقول حسام إن أباه عشية سفره لم يوصه بشيء إلا بالقضية. إنها براءة المناضل لا تخشبه ومحمد عيتاني جدير ببراءة كهذه. احترقت احلام الأب اما الابن فانتقل الى نقد الحلم، ليس حسام عيتاني، الذي لم تحضر له عند ميلاد طفله الاول سوى ذكرى ابيه، بالمهجوس بالثأر من والده. إنه بخلاف ذلك لا يزال يسعى الى ان يتعرف في ابنه على ابيه قبل ان يتعرف فيه على نفسه. لا يحرجه ان يعترف بذلك، فهو في سيرته يريد ان يكون ابنا لهذا الأب كما يريد ان يكون ابنا لهذه المدينة، يريد ان تكون له استمرارية في هذه الأرض ولا يجد سبباً ليلغها، انه فقط يطارد هذا الحلم الخادع الذي احرق قلب ابيه كما يطارد المرء قاتلا او مشبوها، لا يريد ان يربي سلالة لكنه يعرف انه وأباه وربما ابنه في الميدان نفسه، والارجح انه في عمله النقدي هذا إذا كانت التسمية ملائمة يواصل بطريقة اخرى عمل ابيه او على الاقل يتواصل معه. اذ لا يفتأ حسام عيتاني يقول لنا إن له شجرة صغيرة في هذه البلاد وإنه ابن هذه المدينة وبهذه الصفة يتكلم، وبهذه الصفة يبحث ويناقش، هذه البحث الذي هو امتداد لوجوده هنا، هو ايضا بحث عن نفسه وعن حياته، ليس المناضل بعيدا عن ذلك لكنه مناضل من نوع آخر. قراءة كتاب حسام عيتاني تفيدنا كثيرا عن ثقافتنا، اذ انه بهذا الجمع يرينا ان مكتبة بحالها نشأت حول المسألة اللبنانية، وبعض ما فيها ثمين وحصيف، نفهم ان لبنان قد يكون البلد العربي الوحيد الذي تجاوز التعميمات والرطانات والتوتولوجيات ونعم بنقاش خصب ومتنوع حول نظامه السياسي وبنيانه السياسي. بل إن جانبا من هذا النقاش اتسم بقدرة نظرية وتحليلية واضحة، بوسعنا القول لذلك بأن ثمة عملا نظريا حقا بل ويمكننا الادعاء ان لنا هياكل فكر سياسي خاص. إذا كان حسام عيتاني قد الف كتابه في لحظة صعبة ميالة الى الانكار والعقوق. لحظة هي بحد ذاتها محك ظالم لهذا النتاج، فإن للارتياب الذي طبع الكتاب بكل المقولات تقريبا سببه الواضح، اذ ليس بعيدا ان نحمل هذه المقولات بعضا من الفخ الذي نحن فيه، ولربما تراءى لنا ان حبل الأكاذيب لا يتوقف عند حلم الأب المغدور لكنه يتتابع الى حياتنا ووجودنا وان علينا ان نبطله قبل ان يصعقنا. جدل الهوية هو قوام الفكر السياسي اللبناني، وجدل الهوية غير بعيد عن جدل الطوائف وتصوراتها التاريخية وأساطيرها المؤسسة، بيد اننا لا نجد في خطابات الهوية كلام الطوائف الخام واعتدادها الذاتي وعصبياتها المباشرة فخطابات الهوية تصدر عن تحويل ايديولوجي كامل، انها اعلاء بالمزايا الذاتية او الصور عنها الى درجة المبدأ وتعميم لها على البلد كله وفصل لها عن مصادرها المباشرة. فحين يتكلم جواد بولس عن الطابع الخاص للبنانيين منذ الفينيقيين حتى أيامنا هذه، وحين يجري الكلام عند كثيرين عن الفرادة اللبنانية وحين تمتاز هذه الفرادة بجوهرانية خالصة، لا نبتعد كثيرا عن ذلك. بل ان في وصف هذه الهوية وتحديدها سواء إزاء الجوار العربي او إزاء الغرب او إزاء الحوض المتوسطي، في كل ذلك لا يتعب المرء حتى يجد التحويل الايديولوجي والاعلاء الذاتي وربما الخطاب الطائفي المموه. يمكننا ان نتكلم عن خطاب الهوية احيانا كبناء فوقي للنعرة الطائفية، لكن في التعميم الوطني لذلك وتنكب الخطاب عن اعلان طائفيته وعماه عنها في احيان، في ذلك كله ما يجعل اللعبة الايديولوجية عصية على القبض عليها وإصابتها في الصميم، بقدر ما يبدو التمويه الوطني حداً دون الانفصال والانقسام النهائي وأفقاً بعيداً لتسوية عامة. بيد ان اللاوعي الطائفي لأطروحات كهذه يجعلها تحمل صورة الانقسام الاهلي فتتصاد وتتنابذ وتثبت في اماكنها بدون حراك يتيح تداخلا او تفاعلا او حوارا حقيقيا. لا يحتاج حسام عيتاني الى تبيان هذه الطبيعة الايديولوجية للهوية فهي ماثلة في كلامه منذ السطر الاول، وهي حاضرة في وعي البحث ومسلماته. لكننا احيانا نحتاج الى هذا التصنيف المدرسي لكي لا نقع في شبهة الخلط بين البواعث الطائفية وتمويهها الايديولوجي. فالجدل بين الشرق والغرب والعروبة واللبنانية والعربية والمتوسطية على الرغم من منطلقاته الطائفية لا ينحصر فيها، ولا يمكننا التعويل كليا على اللاوعي الطائفي الماثل فيه. فهذه الخيارات على الرغم من مصادرها الاولى وحتى جمودها عند هذه المصادر تملك استقلالا عنها بل ويمكن القول ان المخاض الايديولوجي الذي ولدها لا ينفي ان لها نسبيا وجودا موضوعيا، ولا يجوز نبذها او تنحيتها لمجرد شبهة المصور او الباعث. اذا كانت لعنة الاصل تعيق النقاش وتعيقها عن ان تبدو لنا كإمكانات وخيارات حرة، الا ان لعنة الولادة هذه لا تكفي لازاحتها بتحليل شبه نفساني او بغضب محق فهما قد لا يكونان، في المنطق نفسه، بريئين. حين يرد عيتاني على سبيل المثال تبني الموارنة للغة العربية على أنه مجرد ممر من عزلتهم الجبلية نحو الغرب، اشعر بشيء من الجفله فأنا بدون علم، بهذا الموضوع، أشعر أن الانتقال اللغوي هذا خيار تاريخي ولا يجوز ان يؤخذ بالقصدية والارادوية ويتناول على أنه احتيال او تذرع او توسل. شيء من هذا اشعر به تجاه تحليل للمتوسطية على انها فرار من اسلامية السواحل، فهنا ايضا الارادوية نفسها. ولا ازال اشعر بذلك تجاه بعض تعليقات عيتاني على ميشال شيحا اذ لا يزال يعارض افكارا نفاذة بلا وعيها الطائفي المفترض. أحسب ان فضح ما يسميه حسام عيتاني، جرياً على آخرين، الايديولوجيا اللبنانية هو واحد من ألعابنا الديالكتيكية الكبرى. وأظن أننا جميعا تمتعنا بذلك. لكني اخشى اننا بالغنا في استمتاعنا وأننا فيما كنا نكشف بسهولة التمويه الايديولوجي، غامرنا بنسيان المخاض التاريخي لما سيسميه وضاح شرارة الخط الجماهيري الذي هو في أساس تكوين لبنان الحالي. ذلك ان النقد الايديولوجي محذوفا منه العامية والتحول الاقتصادي والتعليمي والاداري قد لا يوفي الى غايته، وقد يسقط، بدون انتباه، في يساروية لا تسلم هي الاخرى من النعرات. التصنيف المدرسي المنهجي قد يحتاجه المبحث رغم انه في وعيه وفي ضميره. للتمييز بين شعراء الهوية ونقادها. اذا كان جواد بولس ويوسف السودا وشارك مالك وسعيد عقل بالطبع يتغنون بالهوية كأقنوم مفارق لا يملك سؤالا، فإن الآخرين الذين سموا في مطلع هذا التعليق يطرحون على خطاب الهوية اسئلة النظام اللبناني والتاريخ اللبناني والمستقبل اللبناني. نحن هنا أمام عمل نقدي يشكل في مجموعه تراثا نظريا متكاملا، ان الطائفية كنزعة قومية سابقة على الدولة وكقاعدة صراع لا يقصد منه كسب الآخر مما يغرقه في الثأر الدموي، وكخط لليمين الجماهيري، والنظام الطائفي كأليغارشية وفدرالية مموهتين والدولة كمحل تناقض، يجعلها تنزع الى حماية نفسها. هذه بالطبع عناوين وسواها كثير لكنه يعني ان مكتبة مصغرة في كتاب حسام عيتاني لهذا التراث ترينا كم ان فيه الكثير لمستقبل هو نفسه لا نتأكد من انه لا يزال موجودا. أحد كشوفات الكتاب ما سمي بميثاق عبد الحميد كرامي وأود ان نشترك في قراءته ملخصاً (1) لبنان ليس وطنا لدين من الأديان (2) لن يضم كليا او جزئيا الى قطر آخر (3) الأمة اللبنانية ينبغي ان يسودها العدل والمساواة (4) حدود لبنان نهائية مقدسة (5) يتعاون لبنان الى أقصى الحدود مع الدول العربية (6) ان لا يشعر احد في لبنان بأنه مغبون. هذه هي خلاصة ميثاق مفتي طرابلس وهو لا يزال الى الآن جامعا وفاعلا. لكن ميشال شيحا منظر النظام اللبناني وناقده الأول لا يزال مرجعاً صالحاً لفهم ما يخفي على الأبناء او فاتهم بسبب عماهم الايديولوجي المتفاقم، «انه نظام شراكة سياسية، نظام ديكتاتورية مموهة، فعوض ان نشهد زيادة في صناعة المواطنين نشهد تفاقماً في تكديس الجمهور القطيعي، انه وجه مبتكر من وجوه الفدرالية». استعيد هذه العبارات لأترك للجميع ان يزنوها بميزان الحاضر. ربما ليلاحظوا كم ان هذا التراث عامر بالأحابيل بقدر ما هو حافل بإضاءات مبكرة طالما تجاهلناها. بيد انني في موضوع شيحا، أرى ان حسام عيتاني أخذه بخفة، وحاسبه بحق او بغير حق على طوايا مفترضة. ولست أجادل في هذه الطوايا لكني ارى ان الابتعاد اليها هو بحد ذاته موضع لوم فإن في نص ميشال شيحا من القوة الديالكتيكية ومن النفاذ الى التكوين المتناقض للنظام اللبناني ومن الحكمة في معالجته وفي فضح طبيعته الاضطرارية ما كان يجب ان يغري كاتبا في حصافة حسام عيتاني اكثر من مناكدته على طوايا صغيرة لم يخطئ غالبا في سبرها. لكن في وصف ميشال شيحا بالمصرفي الجزويتي ذي الاصول العراقية السورية ما يقلقني حقا فقد فات حسام ان في هذا الوصف ما يشبه النعرة ويمكن ان نحمله على يسارية عيتاني او ما تبقى منها. لكن المقلق هو التلميح الى لا لبنانيته، وأظن ان في الايحاء بلا لبنانية مدافع عن لبنان هو بحد ذاته امر له بسيكولوجيته التي احسب ان عيتاني لم يحتط لها كثيرا. لكن في بعض ما نأخذه على كتاب حسام عيتاني جاذبيته. إنه انتماؤه وغضبه ونقديته العالية وإحساسه بحراجة اللحظة. يتصدى حسام عيتاني لكل ما يضع عناصر لبنان خارج حدود الفهم والإدراك، وهذا الكتاب بحق محاولة جدية لوضع هذه العناصر والمقومات تحت نور الفهم والإدراك.

jeudi 28 juin 2007

صاحب مكتبة ابن سينا يحظى بوسام الآداب والفنون الفرنسي

صاحب مكتبة ابن سينا يحظى بوسام الآداب والفنون الفرنسي
الوسام تكريم لحضور الكتاب العربي في فرنسا
جريدة القدس العربي
عبد الإله الصالحي باريس
أدونيس ودرويش من زبائنه المنتظمين. صبحي حديدي صديقه وسركون بولص من معارفه. وغالبية الكتاب والشعراء والفنانين العرب الذين يعبرون العاصمة الفرنسية سبق لهم أن دلفوا إلي مكتبته لاقتناء جديد دور النشر أو لتصفح الكتب التراثية.إنه الكتبي اللبناني هاشم معاوية صاحب مكتبة ابن سينا إحدى أعرق المكتبات العربية في باريس وأكثرها حضورا وإشعاعا الذي قلدته مؤخرا وزارة الثقافة الفرنسية وسام الآداب والفنون الذي تمنحه فرنسا من حين لآخر للشخصيات من عالم الثقافة ونادرا ما يتشرف به أصحاب المكتبات.لم يخف هاشم معاوية حبوره بالوسام الفرنسي عندما زرناه بهذه المناسبة واعتبر المبادرة تشريفا للكتاب العربي وحضوره في الساحة الثقافية الفرنسية أكثر مما هو تكريم له ولجهده كمكتبي. ورغم أن عمرها لا يتجاوز ثمانية عشر عاما فمكتبة ابن سينا نشيطة ومتميزة بتعاملها مع اغلب دور النشر العربية التي تمدها بالعناوين الجديدة حال خروجها من المطابع بحيث أن القارئ الباريسي لا يجد عناء في العثور علي آخر الإصدارات التي يقرأ عنها في الصحف العربية أو يسمع عنها في وسائل الإعلام. وإذا كانت مكتبة ابن سينا تتمتع بسمعة جيدة لدي هواة القراءة فلأنها تستفيد من موقعها الاستراتيجي علي مقربة من معهد العالم العربي في باريس وهو قطب جذب هائل للجمهور العربي والفرنسي المهتم بشؤون الثقافة العربية الذي يحج إليه من مختلف أنحاء العالم. كما أن وجود مكتبة ابن سينا في قلب الدائرة الخامسة قرب المعاهد الجامعية ومؤسسات البحث العلمي يقربها من دوائر الطلاب العرب والمستشرقين الذين يستهلكون الكتب العربية بكثرة. هذا بالإضافة إلي أن الزائر للمكتبة لا بد وان يصادف من حين لآخر كاتبا أو فنانا عربيا سواء من المقيمين في باريس أو العابرين منها في زيارة خاصة أو تلبية لدعوة ما للمساهمة في إحدى نشاطات معهد العالم العربي أو إحدى المؤسسات الفرنسية الأخرى مما يضيف الى المكتبة نكهة خاصة تثير فضول الزائرين. هاشم معاوية كتبي ثرثار بالمعني الايجابي للكلمة. وغالبا ما ينسي الكتب وينخرط في نقاشات حامية ومتشعبة مع زبنائه حول القضايا السياسية الراهنة وهو أحيانا يندم علي ذلك لأن الزبناء ليسوا كلهم ملزمين بمعرفة قناعات وآراء صاحب المكتبة خصوصا حين تتعارض مع آرائهم. لكن أخبار الحرب الأمريكية البريطانية علي العراق وفناجين القهوة المتلاحقة توتر أعصابه وتدفعه للحديث بشكل لاإرادي مع أول زبون تطأ قدماه المكتبة. وككل أصحاب المكتبات المحترفين ينقض معاوية أحيانا علي الزوار ولا يترك لهم المجال ليخرجوا من المكتبة إلا وهم محملون بكيس بلاستيكي مليء بالكتب مثل تلك الزائرة الأمريكية المستعربة التي صادفتها عنده والتي جاءت بحثا عن موسم الهجرة إلي الشمال للطيب صالح لتخرج من المكتبة بعد نصف ساعة محملة برواية عرس الزين وبرواية دنيا زاد للكاتبة المصرية مي تلمساني وأيضا، من دون أن ندري كيف أقنعها، بـ الجبل الصغير لإلياس خوري ! وتبقي ميزة هذا الكتبي العصامي أنه علي شاكلة الكتبيين الفرنسيين يحرص علي قراءة ما يعرض من كتب وحين يتعدى بعضها اهتمامه فانه يستعينُ بأصدقائه من الكُتاب والباحثين الذين ينصحونه بجلب نسخ من ذلك الكتاب أو ذاك. هذا بالإضافة إلي أنه يداوم علي قراءة الصفحات والملاحق الثقافية العربية حتي يبقي في الصورة ولا تفاجئه طلبات الزبناء. وحين نسأله إن كانت مهنة الكتبي لا تجلب له بعض المتاعب خصوصا وانه سبق وأن تعرض لاعتداءات من طرف عناصر تابعة لليمين المتطرف الفرنسي ولمضايقات من بعض الإسلاميين المتعصبين يتفادى الجواب ويغير الموضوع. لكن يبدو أن صورة تشي غيفارا المعلقة في جدار المكتبة مؤشر كاف علي سبب المضايقات التي قد يتعرض لها. وحين نسأله عن أطرف ما عاشه ككتبي يروي لنا كيف أنه ارتكب خطأ قاتلا ذات يوم حين تضايق من الوجود المطول لأحد الشيوخ الذي يرتدي ثيابا رثة علي شاكلة المتسكعين الباريسيين ظل متسمرا قبالة جناح الكتب الفلسفية لمدة ساعة يتصفح الكتب بصمت من دون أن ينبس بكلمة واحدة. كدت أطرده لكنه بادر إلي التعريف بنفسه مشيرا بسبابته الى رف كامل من الكتب: إنها كتبي، واسمي عبد الرحمن بدوي! . وفي جعبة معاوية الكثير من النوادر والمعلومات الطريفة عن كبار الكتاب العرب. فمنه عرفنا مثلا أن الشاعر محمود درويش عندما كان يقيم في باريس كان يأتي إليه بانتظام بحثا عن أمهات الكتب العربية والمؤلفات التراثية في حين أنه لم يشتر منه ولو مرة واحدة مجموعة شعرية حديثة. كما عرفنا منه أن الكُتاب ليسوا بالضرورة قراء نهمين كما أن بعضهم غالبا ما ينسي تسديد فواتيره. لكن هاشم معاوية لا يريد إعطاءنا قائمة بأسماء هؤلاء ولو علي سبيل المزاح لأنه يعتبر الكتاب فصيلة خاصة تستحق أن يغمض عينيه علي بعض تجاوزاتها . لكن ألم يسبق له أن حلم بالعبور الى الضفة الأخرى وكتابة مؤلف يري عليه اسمه وتوقيعه؟ لا، قطعا لا. أنا كتبي فقط ومهنتي تتلخص في التوسط بين الناشر والقارئ ومتعتي تكتمل حين يجد القارئ ما يصبو إليه علي الرفوف لكنه يضيف بلهجة بعلبكية ماكرة: هناك ما يكفي من الكتب الرديئة في السوق ولا حاجة الى إضافة عنوان رديء آخر!

بطاقة: هاشم معاوية
1957 الولادة في مدينة بعلبك اللبنانية
1982 الهجرة الى فرنسا والاستقرار في مدينة ليون من اجل متابعة الدراسة الجامعية
.1985 افتتاح مكتبة ابن سينا في باريس مع زوجته
.1994 افتتاح فرع فرنسي للمكتبة بنفس الحي
.2003 الحصول علي وسام الجمهورية الفرنسية للآداب والفنون
. 2003/03/26

سوق الكتب العربية والاسلامية في فرنسا


جريدة النهار

الاحد 18 آذار 2007 - السنة 74 - العدد 22949
سوق الكتب العربية والاسلامية في فرنسا: ازدهار الرواية ومعرض بورجيه
هاشم معاوية صاحب مكتبة "ابن سينا" في باريس منذ اواسط الثمانينات من القرن الماضي، وهي المكتبة العربية الاولى المتخصصة بالكتاب العربي في العاصمة الفرنسية. وفي شهادته عن سوق الكتاب العربي في فرنسا وغيرها من البلدان الاوروبية يقدم معاوية لمحة عن
الاتجاهات الجديدة في ميول قراء الكتاب العربي والاسلامي في اوروبا السنوات العشرين الاخيرة.
شهادة هاشم معاوية – كتابة محمد ابي سمرا
سنة 1985 كانت "مكتبة ابن سينا" العربية في باريس معروضة للبيع، بعد تعرّضها لأزمة كادت تؤدي الى موتها، فتداعينا مجموعة من الطلاب اللبنانيين لشرائها، واشركنا معنا باحثاً فرنسياً وزوجته. خبرتي في الكتب والمكتبات، لم تكن تتجاوز مشاركتي القديمة في احياء معارض كتب نضالية يسارية في مدينتي بعلبك قبل رحيلي عنها الى فرنسا مطالع الثمانينات. في تلك الايام كنت انقل الكتب بالبوسطة من دور النشر البيروتية الى بعلبك."ابن سينا" اسسها لبنانيون سنة 1980، وكانت المكتبة العربية الاولى في فرنسا. قبلها كانت الكتب العربية والاسلامية تباع في اكشاك الاسواق الشعبية المحلية الاسبوعية المتنقلة التي يقصدها المسلمون الفرنسيون المهاجرون من بلدان المغرب العربي. فسوق ضاحية مونتروي الباريسية، مثلا، كان فيه كشك يبيع حمولة مستوعب ضخم من الكتب الاسلامية في السنة. هذا من دون ان ننسى اجنحة الكتب العربية في مكتبات ارمنية باريسية، مثل ساموريان وأدريان وغوتنر التي يتجاوز عمرها 200 سنة وكانت على صلة بمكتبات ودور نشر عربية في بيروت (مكتبة لبنان) وبغداد (المثنى) والقاهرة (الهلال).
المكتبات العامة والسجون
في البداية كان علينا ان نتعلم ادارة اعمال مكتبتنا بأسلوب فرنسي، كالتزام مواقيت ثابتة ودائمة ومعلنة لفتح المكتبة واقفالها في كل يوم، والتوثيق المتواصل لكل كتاب يدخل اليها ويخرج منها.على خلاف الاعتقاد السائد في لبنان، ليس اللبنانيون العرب المقيمون في باريس، هم زبائن مكتبتنا الاساسيون. فالمثقفون والطلاب والصحافيون اللبنانيون والعرب المقيمون في فرنسا تنقصهم القدرة الشرائية التي تمكّنهم من ابتياع كتبنا بأسعار تزيد بنسبة 40 في المئة عن سعرها في بلدان المنشأ. فشبكة صلات هؤلاء الممتدة ببلدانهم، وخصوصا لبنان، تؤمن لهم ما يحتاجونه من الكتب بسعرها البيروتي. زبائن "ابن سينا" الدائمون والفعليون هم الباحثون والطلاب والمستعربون الفرنسيون والاوروبيون، اضافة الى بعض البورجوازيين اللبنانيين والسياح والعابرين العرب الاماراتيين والسعوديين. لكن الاهم من هذا كله هو المكتبات العامة.في السنوات الاخيرة برزت ظاهرة جديدة لم تكن قائمة من قبل. ابناء الجيل الثاني من الفرنسيين من اصل لبناني، تزايد طلبهم على الكتب العربية للمطالعة والقراءة الشخصية، مدفوعين برغبتهم في التعرف الى ثقافة بلدهم الام، او بلد اهلهم ولغته التي تعلموها في سن غير مبكرة كلغة ثانية. واللافت ان ابناء هذا الجيل الفرنسي اللسان والثقافة، ليس لديه حس التعالي على اللغة والثقافة العربيتين، على عكس الشائع بين طلاب المدارس والجامعات الفرنكوفونية في لبنان، بل هو يقبل على قراءة الكتب العربية شغوفاً بها شغفه بلغة وثقافة انسانيتين غربيتين عنه وغريبتين منه في وقت واحد، كأنما يريد ان يتعرف الى شيء ما هاجع او صامت فيه.من الظواهر الجديدة ايضا في ما يتعلق بالكتاب العربي في فرنسا واوروبا عموما، تزايد طلب المكتبات الجامعية ومراكز الابحاث والمكتبات العامة على الكتاب العربي. فمكتبتنا الباريسية على صلات ثابتة بمكتبات في اميركا واليابان واوستراليا. اما المكتبات العامة البلدية في المدن الفرنسية فصارت تطلب من مكتبتنا ان تزودها دوريا بقائمة الكتب العربية الصادرة حديثا، لكي تختار منها الكثير من العناوين. لكن معظم هذه المكتبات غالبا ما تعتمد على خياراتنا للتزود بالكتب العربية الجديدة، لأن ليس لديها موظفين اخصائيين للقيام باختيار الكتب المناسبة. فاحدى مكتبات مدينة مرسيليا البلدية ارسلنا لها قائمة بـ1200 عنوان من الكتب العربية، وكان الامر مفاجئاً لنا حين طلبت التزود بنسخ من القائمة كلها. ذلك ان المكتبات العامة الفرنسية والاوروبية صارت تعتبر انه من الضروري والملح ان تحتوي جناحا للكتب العربية لتقدمها لقرائها، وخصوصا لأبناء الجاليات العربية والمسلمة الفرنسية. وفي باريس وحدها هناك اكثر من 30 مكتبة عامة وبلدية تتزود بالكتب العربية من مكتبتنا، تاركة لنا في احيان كثيرة اختيار العناوين. وكل من هذه المكتبات لا تخلو قط من نسخ من القرآن الكريم، ومن كتب السيرة النبوية وحياة الصحابة وغيرها من العناوين التراثية والكلاسيكية في الثقافة العربية الاسلامية.ادارة السجون في المدن الفرنسية من زبائن مكتبتنا ايضا، وهذا دليل على تزايد عدد السجناء من اصول عربية واسلامية في فرنسا. واللافت في هذا المجال ان ادارات بعض السجون تختار اصنافا محددة من الكتب العربية، بحسب طلبات السجناء واهوائهم. فهناك السجناء الذين يطلبون كتبا معمقة في مجالات معينة، بينما يطلب آخرون كتبا للمطالعة والتسلية، كبوليسيات اغاتا كريستي، فيما تطلب فئة ثالثة كتبا تراثية اسلامية. وهذا ما تقوم ادارات السجون بمراعاته وتلبيته، بحسب فئات نزلائها واهوائهم.
شبكات التوزيع والرواية
علمتني خبرتي الفرنسية ان الحس التجاري الصرف لا يكفي وحده لنجاح مكتبة واستمرارها. الى جانب هذا الحس يجب توافر عاملين آخرين او ثلاثة: حب الكتب وهوايتها، وحيازة ثقافة عامة، وانشاء علاقات شخصية وعامة مع الزبائن من القارئين والباحثين المستعربين والمترجمين والتواصل معهم في شؤون الكتب. فزائر مكتبة عربية تجارية في باريس، ليس زبونا عابرا مغفلا في الدرجة الاولى، بل هو شخص لديه متطلباته الخاصة. وهو في حاجة الى التواصل مع صاحب المكتبة ومحادثته في شؤون الكتب وشجونها، لأنه غالبا ما يكون من الفرنسيين الراغبين في التعرف على البلدان والثقافة العربية. لذا هو يسألك ماذا قرأت اخيرا، وما هي اهمية هذا الكتاب او ذاك؟ معتمدا على ذوقك ونصيحتك ومعرفتك بالكتب. وهذا يحتم عليك ان تكون لديك فكرة واضحة ووافية وحقيقية عن الكتب، لتقدمها الى الزبائن الذين غالبا ما يعقدون صلة ما مع المكتبة للتزود بما يحتاجون اليه. وهؤلاء من طلاب الدراسات العليا والمستعربين والمترجمين من بلدان اوروبية كاسبانيا وايطاليا والمانيا، اضافة الى الفرنسيين. ذلك ان ليس من مكتبات عربية تجارية في هذه البلدان، سوى واحدة في جنيف. وفي باريس نفسها هناك، الى مكتبة "ابن سينا" مكتبة اخرى نشأت قبل سنوات قليلة، اضافة الى مكتبة معهد العالم العربي التجارية. لذا يمكن القول ان هذه المكتبات التجارية الباريسية الثلاث وحدها، تغطي حاجات البلدان الاوروبية من الكتب العربية، سوى بريطانيا التي تتميز بوجود مكتبة ودار نشر نشيطة هي "الساقي" في لندن.في فرنسا لم تنجح تجارب انشاء دور نشر عربية. فبعض دور النشر الصغيرة التي قامت في باريس نشرت كتبا سعودية ثم توقفت.في السنوات الـ15 الاخيرة ازدهر سوق الرواية العربية الجديدة في اوروبا. بعض الروايات اللبنانية تجاوزت مبيعاتها في مكتبتنا وحدها الألف نسخة. وهناك روايات اخرى وصلت مبيعاتها الى 600 نسخة. وهذه اعداد قد لا تجد ما يعادلها في عواصم عربية كثيرة. والحق ان صاحب المكتبة له دوره الفاعل في ترويج الروايات وغيرها من انواع الكتب التي يروجها وكأنه ناشرها، ليس عن دافع تجاري فقط، بل نتيجة تذوق واختيار شخصيين.فحين اقرأ رواية ما وتعجبني، لا أتوقف عن الكلام عنها مع زبائن المكتبة وزوارها، ناصحا اياهم بقراءتها. ودافعي الى هذا ليس الترويج التجاري وحده، بل شعوري الشخصي بضرورة ان يشاركني الزبائن الكلام عن هذه الرواية او تلك، كي اختبر نفسي في الاختيار والتذوق ومعرفة اهواء القراء وميولهم.اذكر انني كثيرا ما اتصلت من باريس بروائيين لبنانيين في بيروت لأشكرهم لأنني قرأت رواية لأحدهم وامتعتني، وهذا اقل ما يمكن ان يفعله قارىء وصاحب مكتبة مع كاتب امتعته لأيام قراءة كتابه. وانا يهمني ايضا ان انشىء صلات مع الكتاب الذين اقرأ كتبهم وابيعها في مكتبتي، اهتمامي بأن اتواصل مع زبائني في ما يتعلق بالكتب. احيانا قد اشارك استاذا جامعيا في اختيار رواية ما لادراجها في برنامجه السنوي للتدريس في صفه. واحدة من الروايات اللبنانية التي وافقني استاذ جامعي على ادراجها في البرنامج، بعت منها مئة نسخة في اسبوع واحد.
المكتبات الاسلامية
حين بدأت عملي في مكتبة "ابن سينا" في أواسط الثمانينات، لم يكن في باريس سوى ثلاث مكتبات إسلامية أو أربعة. أما اليوم فهناك اكثر من 50 مكتبة إسلامية في العاصمة الفرنسية. والمكتبة الاسلامية التي أقصدها مختلفة تماما في مواصفاتها وأسلوب عملها وزبائنها عن المكتبة العربية. فمكتبات باريس الاسلامية التي أتحدث عنها لا تقتني سوى الكتب الاسلامية التراثية والكلاسيكية والمحدثة حول تعاليم الدين وشؤونه والأرواح والحياة ما بعد الموت. وزبائن هذه الكتب جالية الفرنسيين المسلمين في اوروبا كلها، وخصوصا من الجيل الثاني والثالث من هذه الجالية التي يتجاوز عددها الـ13 مليون نسمة في البلدان الاوروبية. ومكتبات باريس الاسلامية هذه تعتبر الرئيسية والمركزية في اوروبا كلها لنشر هذه الكتب وتوزيعها، عبر شبكات واسعة ومعارض موسمية. اما المصدر الاساسي لهذه الكتب فهو دور النشر الاسلامية في بيروت.لكن المكتبات الاسلامية الباريسية سرعان ما تحولت دور نشر فوضوية، تقوم بترجمة كتب التراث الاسلامي وغيرها ترجمة سوقية سريعة الى اللغة الفرنسية، لنشرها وتوزيعها، استجابة للطلب الواسع على هذه الكتب بين الجاليات الاسلامية في اوروبا. فهذه الجاليات أصابتها في السنوات العشرين الاخيرة وفي أجيالها المختلفة، عدوى الاسلام الجديد الذي لا تجد سبيلا الى ثقافية في غير الكتب. ذلك ان ثقافة الحياة اليومية للبيئات الأوروبية، وكذلك ثقافة الحياة البيتية، لا تزودانها بمتطلبات الاسلام الجديد وثقافته، فتميل الى التعرف اليها من الكتب السوقية التي تنشرها المكتبات الاسلامية المتكاثرة والمتحولة دور للنشر، تقوم بترجمة الكتب التراثية الى الفرنسية واستنساخها على نحو عشوائي وترويجها، تلبية للطلب الكثيف عليها بين الجاليات الاوروبية الاسلامية الراغبة في التعرف الى هويتها في إسلام جديد. واللافت ان ابناء هذه الجاليات لا يجيدون القراءة في العربية، فتقوم المكتبات ودور النشر بترجمة التراث الاسلامي على نحو رديء الى الفرنسية وطباعة كتبه طباعة سيئة لتوزيعها وترويجها.حكايات الأرواح والجن وحساب القبر وحياة ما بعد الموت المترجمة الى الفرنسية شديدة الانتشار والرواج اليوم بين ابناء الجاليات الاوروبية المسلمة، وتُقام لتسويقها معاض موسمية تضاهي معارض الكتب في بيروت والقاهرة. وفي السنوات الاخيرة صرت تلقي أسا تذة جامعات يبحثون عن هذه الكتب للإطلاع عليها ودراستها.مع تزايد قوة هذه الموجة صرت تجد الكثير من الطلاب الملتحين والطالبات المحجبات في قاعات الدراسات العربية الجامعية في فرنسا. هؤلاء معظمهم من أبناء الجيل الثاني والثالث للمهاجرين من بلدان شمال افريقيا الى فرنسا، ويعانون من مشكلات كبرى في فهم النصوص الدينية التراثية في اللغة الفرنسية التي يجيدونها من دون العربية. من هذه المشكلات الفاقعة، مثلا، ان تقرا طالبة جامعية العبارة الشائعة القائلة "ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما"، فترفض أن تجلس الى جانب طالب في قاعة الامتحانات! ولحل هذه المعضلة عمد أحد أكبر معاهد تعليم اللغة العربية في باريس الى طلب توقيع الطالبات على تعهد يدعوهن الى تقبل الآخر، وعدم تحويل تلقي الدرس في المعهد "مهمة نضالية" إسلامية.ومن الظواهر المستجدة في هذا المجال أن مكتبة عربية صغيرة في مدينة ليون الفرنسية طلبت مني تزوديها بقائمة للكتب لتختار منها بعض العناوين، فتلقيت جوابا منها برفض اختيارها روايات نجيب محفوظ لأسباب دينية، فيما طلبت التزود بكميات كبيرة من كتب الأرواح والحياة ما بعد الموت التي أرفض إدخالها الى مكتبتي.
معرض بورجيه السنوي
معرض بورجيه الموسمي للكتب الاسلامية في باريس من أهم المعارض الاسلامية لتداول هذه الكتب وعقد صفقاتها على مستوى اوروبا كلها. فالجاليات الاسلامية في اوروبا تعودت على إحياء مؤتمر سنوي لها في بورجيه، تقام فيه ندوات كثيرة الى جانب المعرض الذي تبلغ كلفة الكشك الواحد للمشاركين فيه نحو مئة ألف فرنك. وهذا المبلغ الكبير يدل على أرقام المبيعات والارباح المرتفعة في هذا المعرض.إنه مهرجان إسلامي موسمي ضخم يؤمه أصحاب المكتبات الاسلامية والناشرون من انحاء اوروبا كافة، للبيع والتسويق وعقد الصفقات. اما جمهور المعرض الواسع فيأتي في الباصات من أنحاء فرنسا والمانيا وسويسرا وهولندا وبلجيكا، ليس طلباً للتزود بالكتب فحسب، بل للقاء والتعارف والتبادل، كما في مناسبة اسلامية عامة وجامعة، تشبه مواسم الأعياد وغيرها من الشعائر. وقد يشبه هذا المعرض – العيد، عيد الإيمانيتيه اليساري والشيوعي الفرنسي الذي كان يقام قبل 20 سنة في باريس. ففي معرض بورجيه غالباً ما يلتقي "المناضلون" الاسلاميون الجدد الوافدون اليه من بلدان اوروبية مجاورة لفرنسا، فيتزودون الكتب الجديدة ويعقدون الندوات واللقاءات ويتبادلون الآراء والتجارب، حيث تجد كتباً في تفسير القرآن بحسب أهواء وغايات عشوائية في اللغة الفرنسية.

mercredi 27 juin 2007

الأصدقاء الثلاثة

صنع الله ابراهيم في معرض القاهرة

ارضاع المرأة لزميلها بالعمل

جنون العودة إلى ما قبل الفطام حول فتوى إرضاع المرأة زميلها في العمل
أصدر رئيس قسم الحديث بكلّيّة أصول الدّين بجامعة الأزهر فتوى تبيح للمرأة العاملة "بأن ترضع زميلها في العمل منعاً للخلوة المحرمة، إذا كان وجودهما في غرفة مغلقة لا يفتح بابها إلا بواسطة أحدهما". ثمّ اعتذر عنها مؤخّرا، ولكن يبدو أنّ هذا الاعتذار جاء نتيجة ضغط المؤسّسة الدّينيّة وبعض الفاعلين السّياسيّين، لأنّ صاحب الفتوى حرص في اعتذاره أن يقول للمسلمين ما مفاده أنّه ليس من أهل البدع، فهو قد اتّبع السّلف الذين يقولون برضاع الكبير، بما أنّه أصدر هذه الفتوى " نقلاً عن الأئمة ابن حزم وابن تيمية وابن القيم والشوكاني وأمين خطاب وما استخلصه من كلام ابن حجر.." وبين إصدار الفتوى والاعتذار حدث هرج ومرج، وتفاوتت ردود الفعل بين الاستنكار والتّعجّب والضّحك، كما أثارت هذه الفتوى استيهامات جنسيّة عبّر عنها الكثير من المعلّقين ممّن منّوا أنفسهم برضاعة زميلاتهم في العمل، أو برضاعة نجمات الإغراء، وبعض هؤلاء لم يخف خيبة أمله بعد الاعتذار عن الفتوى، وعلى نحو لا يخلو من الفكاهة العابثة والمريرة في آن. فما الصّادم والمثير في هذه الفتوى، ولماذا أقامت الدّنيا وأقعدتها؟ هل يكمن المشكل في الفتوى وفي الهوس الدّينيّ أم الأمر أدهى وأمرّ؟ لا شكّ أنّ هذه الفتوى كانت فضيحة، فهي فتوى هذيانيّة مجنونة : كيف يمكن للذّات البشريّة أن تعود القهقرى إلى زمن ما قبل الفطام لكي تعيش فطاما جديدا؟ كيف يمكن تجنّب الشّهوة التي قد تثيرها الخلوة بحلّ من جنسها، أي بحلّ يزيد من إثارة الشّهوة والاستيهامات في مجتمعات ابتعدت رغم كلّ شيء عن المحرّم العتيق المرتبط بالرّضاع؟ كيف يمكن تصوّر مشاهد رضاعة الرّجال من زميلاتهنّ؟ وهل يحدّ من لامعقول الفتوى قول بعض المتفقّهين بضرورة احتلاب ثدي المرأة بدل التقام الرّجل إيّاه بصورة مباشرة؟ كيف يمكن لنظام التّحريم أن يصل في التّحريم حدّا يبيح فيه ما يريد تحريمه؟ كيف يمكن للمرأة العاملة أن تختزل في حيوان ثدييّ حلوب؟ ثمّ إذا كان القصد من الرّضاع تحريم المرأة عملا بمبدإ "يحرم بالرّضاع ما يحرم بالنّسب"، فلماذا يبيح المفتي الزّواج بين "الرّاضع والمرضوعة"؟ ألا تخلق هذه الفتوى في صورة تطبيقها وضعيّة ملتبسة باعثة على الجنون أو الانحراف؟ألا تدلّ هذه الفتوى على أنّنا لم نفطم بعد في علاقتنا بالماضي وبالأصل؟ أليست مجازا معبّرا عن علاقة مسلمي اليوم بالأصل؟لنتناول الفتوى من النّاحية الشّكليّة أوّلا، وبقطع النّظر عن قضايا الإعلام والإثارة والبيزنس الدّينيّ، فهي مسائل لست مؤهّلة للخوض فيها. صاحب الفتوى ليس مبدئيّا متطفّلا على الإفتاء، بل هو شيخ من شيوخ إحدى المؤسّسات الدّينيّة الكبرى في العالم الإسلاميّ، وهو مختصّ في الحديث ويجمع بين الوظيفتين الدّينيّة والوظيفة الأكاديميّة بما أنّه "دكتور"، ورئيس قسم. وفتواه ككلّ الفتاوى تقدّم حلاّ من الماضي لوضعيّة جديدة، والوضعيّة الجديدة التي يبدو أنّ الإسلاميّين ورجال الدّين الإسلاميّ لا يحتملونها ويعتبرونها مشكلا في حدّ ذاتها، هي الاختلاط بين الرّجال والنّساء في أماكن العمل. هناك قوانين مدنيّة ومبادئ أخلاقيّة حديثة تقنّن العلاقات بين الجنسين في أماكن العمل، منها منع التّحرّش الجنسيّ، ومنها امتناع العقلاء من الرّجال من استعمال نفوذهم لاستغلال العاملات الضّعيفات الفقيرات أو لاستغلال من دونهم في المراتبيّة الإداريّة، ومنها الفصل بين الحياة المهنيّة والحياة الشّخصيّة. ولكنّ الفتوى تقدّم نفسها بديلا من الماضي عن الحلول التي ارتضتها الكثير من المجتمعات الحديثة. تُعرض هذه الفتوى من حيث هي فتوى عن المبادئ المدنيّة وعن آليّات مناهضة العنف ضدّ النّساء لتبحث في الماضي عن الحلّ المفترض للإشكال المفترض. وقد مارس صاحب الفتوى عمليّة الاجتهاد بالعودة إلى مصدر من مصادر التّشريع في الإسلام هو الحديث النّبويّ. بل إنّه عاد إلى مرويّات تنصّ عليها أمّهات الكتب، وأخذ بأحد المذهبين المتّصلين بمسألة تعدّ بابا تقليديّا من باب أبواب كتب الفقه والحديث هي مسألة "رضاع الكبير". فمن القدامى من يشترط وقوع الرّضاع قبل الفطام لتحليل الخلوة وتحريم النّكاح، وهناك من يقول بجواز رضاع الكبير، استنادا إلى حديث متواتر وارد في صحيح مسلم بروايات مختلفة : "عن عائشة رضي الله عنها أن سالماً مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيته ، فأتت ابنة سهيل النبي صلى الله عليه و سلّم فقالت : إنّ سالماً قد بلغ ما بلغ الرجال ، وعَقَل ما عقلوا ، و إنّه يدخل علينا و إني أظنّ أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً ، فقال لها النبي صلى الله عليه و سلّم : ( أرضعيه تحرمي عليه ، و يذهب الذي في نفس أبي حذيفة ) فرجَعَت فقالت : إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة."وما لم يقله صاحب الفتوى والمعترضون عليه هو وجود آية مفترضة تؤكّد جواز رضاع الكبير، ولكنّ هذه الآية، إضافة إلى آية رجم الزّاني قد أكلتها شاة دخلت تحت سرير الرّسول حسب الحديث الذي ترويه عائشة : " عن عائشة ، قالت : لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرا ولقد كان في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكله" (صحيح ابن ماجة، الحديث رقم 1580، وقد ذكره ابن حزم في "المحكم" ، وقال عنه إنّه حديث صحيح).وإضافة إلى ذلك حاول هذا المفتي أن يعمل بشعار الجمع "بين الأصالة والمعاصرة" في شكل تطبيق الفتوى، بأن ابتدع شرط التّدوين، وهو ممّا تفترضه طبيعة العقود في الدّولة الحديثة التي ترتاب من الشّفاهة : فقد صرّح لـ"العربية.نت" أن "إرضاع الكبير يبيح الخلوة ولا يحرم الزّواج، وهو يكون خمس رضعات، وان المرأة في العمل يمكنها أن تخلع الحجاب أو تكشف شعرها أمام من أرضعته، مطالباً توثيق هذا الإرضاع كتابة ورسميًا ويكتب في العقد أن فلانة أرضعت فلانًا."ثمّ إنّ هذه الفتوى في انسجام تامّ مع مقرّرات الفقه الإسلاميّ ومقرّرات الفكر الأصوليّ الحديث في شأن العلاقات بين النّساء والرّجال وفي نقطة معيّنة هي افتراض نقص في المناعة لدى الرّجال والنّساء بحيث يكون الشّيطان ثالث الاثنين دائما وأبدا، وتكون المرأة مصدر إنتاج للفتنة، ويكون الرّجل ضحيّة سلبيّة للفتنة. وما ينتج عن هذا المفترض هو إيجاد الحاجز المادّيّ الواقعيّ بين الجنسين، لافتراض عدم كفاية الحاجز النّفسيّ الأخلاقيّ. فهذه الفتوى تكمّل كوكبة من الموانع المتعلّقة بجسد المرأة، هي الحجاب وعدم المصافحة وغضّ النّظر ومنع الخلوة. إنّها تأتي بحلّ من نفس القبيل، ولكنّه حلّ راديكاليّ يجعل المرأة بمثابة الأمّ المحرّمة بالنّسب، وإن بصفة ظرفيّة بما أنّ صاحب الفتوى ترك الباب مفتوحا أمام زوال المحرّم. الحجاب وبقيّة الموانع تحدث حاجزا مادّيّا وفتوى الرّضاع تحاول إنتاج حاجز رمزيّ يمرّ عبر الاتّصال الجسديّ المتمثّل في الرّضاع المتكرّر. فهذه الفتوى "نموذجيّة" و"عاديّة" من حيث مرجعيّتها وآليّة الاستدلال فيها، وتصوّرها للعلاقات بين الجنسين. وقد طالب الكثير من قرّاء خبر الاعتذار بإقالة الرّجل من مهامّه، وبإخراجه من جامعة الأزهر، أي طالبوا بأن يكون صاحب الفتوى كبشا يقدّم فداء للإسلام ولمؤسّسة الأزهر، وفداء لمؤسّسة الإفتاء نفسها، بحيث يعود كلّ شيء على ما يرام، ويعود شيوخ الدّين الأجلاّء إلى الكلام في الحلال والحرام والمباح والمندوب والمكروه، ويعودون إلى القيام بدور الوساطة بين الخلف والسّلف، وتعود جماهير المسلمين إلى النّهل، وكدت أقول الرّضاع، من بنات أفكار رجال الدّين الرّاسخين في العلم. إنّها فتوى عاديّة نموذجيّة من حيث آليّات إنتاجها، ولكنّها مع ذلك فتوى مجنونة هاذية، وليس في الأمر تناقض. لأنّ الجمع بين هذين المتناقضين يعني أنّ الجنون والهذيان موجودان في نظام الإفتاء ونظام الاجتهاد ذاته وفي المؤسّسات الدّينيّة نفسها. إنّها بضاعة رجال الدّين الإسلاميّ وقد ردّت إليهم، وهي ثمرة من ثمار هذه العلوم الدّينيّة البائسة التي كان أولى بها أن تدخل التّاريخ، ويهتمّ بها مؤرّخو العلوم أو مؤرّخو القوانين والحياة اليوميّة. إنّها إذ تخضع إلى نظام الاجتهاد والإفتاء تصل بهما إلى حدودهما القصوى التي تبيّن تناقضاتهما الصّارخة، وهو ما يظهر في التّحريم الذي "يتجاوز حدّه إلى أن ينقلب إلى ضدّه"، بحيث يصبح التّحريم مصدرا للمتعة، وهو ما يظهر من خلال نصّ الاعتذار الذي يقول الأمر ونقيضه : يقول صاحب الفتوى إنّ الكثير من الأئمّة يذهبون مذهبه، ويقول مع ذلك إنّ الحجّة النّقليّة المعتمدة لا تتعلّق إلاّ بحالة خاصّة لا يقاس عليها. فما الذي في سيرة الرّسول القوليّة والعمليّة يجوز القياس عليه وما الذي لا يجوز القياس عليه؟ إذا كان أمر الرّسول المرأة بإرضاع الرّجل الذي تبنّته في السّابق "قضيّة عين لم تأت في غيره" ورخصة لا يقاس عليها، فلم لا تكون كلّ الأحكام التي تتعلّق بعصر الرّسول أحكاما خاصّة لا يمكن اتّباعها في عصرنا؟ إذا أخطأ الأئمّة الذين اعتمدهم صاحب الفتوى في رضاع الكبير، فما الضّامن لعدم خطئهم في الأحكام الأخرى التي يريد الإسلاميّون مواصلة العمل بها في الأحوال الشّخصيّة وفي القانون الجنائيّ وغيرهما من ميادين الحياة؟ما في هذه الفتوى من جنون وإفراط لا يعود إلى أنّها عمّمت حكما لا ينطبق إلاّ على حالة خاصّة. الخلل ليس في الفتوى وحدها، بل في رضاعة الكبير نفسها، وفي نظام الإفتاء نفسه، وفي الممارسة الفقهيّة والاجتهاديّة الحاليّة، وفي علاقة المسلمين الحاليّين بالأصل والذّاكرة والأرشيف. هذه الفتوى هي الإفراط الذي يبيّن اتّجاه الحركة على حدّ عبارة جورج باطاي، والكاريكاتور الذي يفضح العيوب بتضميخها، ليس إلاّ. إنّها فتوى تخضع إلى آلة الاجتهاد العمياء، ولكنّها تفضح هشاشة التّمييز بين العامّ والخاصّ، وهشاشة منطلقات الفقهاء ومطلقاتهم، وتعيد إلى السّطح اللاّمتقرّر الذي انبنت عليه المنظومة الفقهيّة بردمه وإقصائه.هناك أوّلا مناطق كارثيّة في سيرة رسول الإسلام لا يمكن اعتبارها نموذجا يحتذى، بل يمكن في أحسن الأحوال تفهّمها على أنّها صادرة عن نبيّ إنسان عاش في وضح التّاريخ فعرفنا عنه الكثير، وكان مغرقا في البشريّة في بعض ممارساته الحياتيّة. فمنع الرّسول للتّبنّي إثر إعجابه وزواجه بزينب بنت جحش زوجة ابنه بالتّبنّي زيد بن حارثة من هذه الأمور البشريّة التي أدّت إلى ممارسة رضاع الكبير كما تصوّره النّصوص القديمة، وكما مارسته عائشة زوجته، وكما ابتعثته إلى الوجود الفتوى الأخيرة. ربّما لم يكن لرضاع الكبير الوقع الجنسيّ الذي له اليوم، لأهمّيّة الرّوابط التي لا تنبني على النّسب في ذلك العصر. ولكنّه مع ذلك، وفي ذلك العصر نفسه، يمثّل حلاّ ملتبسا مخبّلا. إنّه حلّ إفراطيّ لمشكل الشّوق البشريّ. فمشكل الشّوق يحلّ بإيجاد الممنوعات، وباللّغة التي تجعل الإنسان يرجئ تحقيق رغباته، ولا يمكن أن يحلّ بوضعيّة تراجعيّة يرتضع فيها الرّجل نهد المرأة حتّى يقتل شوقه إليها. أن يتمّ إعادة إخراج هذه الحلقات المغرقة في البشريّة اليوم وأن يتمّ تقديمها على أنّها حلول لمشاكلنا الرّاهنة هو إنتاج للاّبشريّ بعينه، إنتاج لما ينفي الذّاتيّة عن الذّات، ويعود بها إلى حالة اللاّكلام واللاّقانون، حالة الآلة المتعويّة العمياء الخالية من الإرادة والتّعقّل. فالمشكل الذي تطرحه هذه الفتوى ليس التّعصّب والهوس فحسب، بل هو تحويل الدّين إلى عامل انتزاع لبشريّة البشر. ما كان مغرقا في البشريّة في عهد الرّسول يعود لابشريّا في عهدنا، بعد أن تزال عنه هالات المحرّمات العتيقة. الحجاب يفترض وجود نساء ورجال غير قادرين على التّحكّم في شهواتهم، غير قادرين على استبطان الموانع في نفوسهم. أمّا حديث وفتاوى رضاع الكبير فهي تقطع شوطا أبعد : إنّها لا تختزل المرأة في الأمومة فحسب، بل تختزلها في منزلة حيوانيّة تتمثّل في وظيفة إفراز اللّبن، وتختزل الرّجل في آلة مستمتعة لا تكفي القوانين ولا تكفي الإرادة للحدّ من متعتها، بل لا بدّ من إعادتها إلى حالة الرّضاع ثمّ الفطام، لا بدّ من أن تعود القهقرى لكي تتمّ مسرحة رضاعها وفطامها. لا بدّ أن تعود إلى ما قبل بناء الذّات البشريّة، وما قبل الإخصاء، بما أنّ الفطام هو شكل من أشكال الانفصال بين الأمّ والابن، وبما أنّ الانفصال هو الإخصاء الرّمزيّ الضّروريّ لكي يكون الإنسان إنسانا. إنّنا مصابون بداء متعلّق بالأرشيف والذّاكرة، فنحن لم نعد قادرين على التّمييز بين ما يجب تذكّره وما يجب نسيانه، لم نعد قادرين على إبداع أوضاع نكون فيها غير مطيعين للأنا الأعلى الآتي من الماضي، لم نعد قادرين على سياسة للأرشيف تجعلنا نتلف أمورا من الماضي ونبقي على أمور. إنّها الذّاكرة عندما تعتلّ وتريد أن تحافظ على كلّ شيء. ترفض النّسيان الذي منه اشتقّ الإنسان في بعض روايات الاشتقاق اللّغويّ. ترفض المحدود والمظروف والنسبيّ. لا شكّ أنّ هذه الفتوى فرديّة معزولة، وقد تمّ الاعتذار عنها، ولكنّ صدورها والاحتفاء بها علامة مرضيّة فارقة لا يمكن أن نستهين بها، ولعلّها لا تعدو أن تكون عنصرا في "سندروم" عامّ نعيشه اليوم.هذا الإسلام الذي ننتمي إليه أحببنا أم كرهنا، سواء كنّا مؤمنين أم غير مؤمنين، خرج منه الإرهاب المعولم الحاليّ، وهو ينتج اليوم صورا من اللاّبشريّ منها ما تعبّر عنه هذه الفتوى، وهو إمكان العودة إلى ما قبل الفطام لتأكيد محرّم مشبوه تلتبس فيه المتعة بالقانون. وأفهم صرخات المعقّبين على الفتوى، المعبّرين عن خجلهم، الخائفين من ترجمتها إلى لغات أخرى. ولذلك فإنّ هذه الفتوى الهذيانيّة ربّما كانت جديرة بمسلمي اليوم ومعبّرة عنهم : فعلاقتهم بالماضي هي علاقة رضاع لا فطام. يريدون ارتضاع ثدي الماضي، بدل قبول الفطام، أي الانفصال التّكوينيّ الذي يجعل البشر بشرا يخرجون من الأصل لكي يبتنوا حياتهم الحاضرة والآتية. يريدون مسرحة العودة إلى ما قبل الفطام، لأنّهم لا ينهضون بعبئه.