حسن داوود الذي كتب رواياته في مكتب ناظر المدرسة
لم نجد ضيرا في الانتساب لثقافة مصر
حوار
محمود الورداني
لا أظن أن حسن داوود بحاجة إلي التقديم، فروايته الاولي 'بناية ماتيلد' كانت مهمة وصدرت لها طبعة شعبية في القاهرة، والمهتمون بالرواية عرفوا طريقهم إلي أعماله التي توالت بعد ذلك..لكنني ربما أكون متأكدا أن هذه هي المرة الاولي التي يتحدث فيها داوود طويلا، بعد أن بنينا معا جسرا من الثقة المتبادلة بعد أن اقتربت منه دون أن أعرفه شخصيا أثناء انعقاد مؤتمر الرواية الاخير في القاهرة وسألته: أنت حسن داوود؟ فأجابني بأنه حسن داوود فعلا! فطلبت منه أن نجلس معا قليلا وأن نتحدث. فعلنا هذا. ثم طلبت منه أيضا أن يرسل فصلا أو فصلين من آخر رواياته، فغاب عدة شهور ثم أرسلها.. وهكذا اكتمل بستان حسن داوود الذي نفرد له الصفحات التالية..استطيع أن أقول بثقة واطمئنان كاملين أن حسن داوود هو هذا الحوار، فقد تحدث مثلما يكتب رواياته بتؤدة وروية وهدوء دون أن يسمح لنفسه بأن يصرخ أو حتي يرفع صوته، ومع ذلك فهو متيقن تماما وواثق مما يقوله إلي الحد الذي لايحتاج معه إلي أن يرفع صوته!هكذا إذن تكلم حسن داوود، وهكذا بنيت معه جسرا من الثقة والمحبة.
'لعب حي البياض' روايتك التي نقدم هذا المجتزأ منها في الصفحات التالية.. كيف تراها بعد أن انتهيت منها؟في يفاعتي كنت ميالا لأبي. كان وسيما طويل القامة كريما، والتحسن الذي طرأ علي وضعه المالي والاجتماعي، انعكس عليه خصوصا دون أمي. كان بالتعبير الشائع مثلي الأعلي، وكنت أري أمي شخصا ساكنا لاتأخذه بسهولة عادات سكننا الجديد في أحد بيوت بيروت الراقية نسبيا طبعا. كانت أقل تكيفا منا جميعا في هذا السكن الجديد، وقد أدي ذلك بها للانعزال عن سكان البناية جميعهم باقية هناك في مدينتها الصغيرة النبطية، بل وفي حيها الذي ظلت تعتز به طوال حياتها، فتقول مثلا 'ليس هكذا تحب أن تتزين نساء حي البياض'.متأخرا عرفت وأنا في أربعينياتي أن أمي كانت تتحلي بحكمة هي مما لايقدر عليه السريع التكيف الذين سيبدون سريعي العطب بعد ذلك، لم تخف من المرض الذي أصابها، والذي جعلها تفقد قوة جسمها شهرا بعد شهر. كانت تقول لي ان الانسان سيموت وأن ذلك حاصل لامحالة، هذا الكلام الشائع جدا أو العادي جدا كانت تستطيع أن تقوله كأنه حكمة اختصت بها وحدها، وقد بدا لي أنها حقا لاتخاف من الموت، بل وانها لاتخاف من ضعف وظائف جسمها. ومن هنا، أي أنني مع تقدمي في العمر اكتشفت أنني أقرب إلي أمي مني إلي أبي. وهو بعد مماتها بدا فاقدا التوازن وفاقدا الخبرة التي تمكنه من الاستمرار في العيش، طبعا هذا مخالف لسطوته عليها وقوته الظاهرة أمامها، تلك القوة التي أدركت كم أنها هشة مقابل سكون أمي وضعفها الظاهري.الرواية الجديدة عنها، ويكاد أبي الا يكون موجودا فيها، علي الرغم من أن هذا الكتاب كان ينبغي أن يكون نصفه له.. انه مرثية للحياة، وفي نفس الوقت تاريخ شخصي للنبطية مرويا، أو متخيلا، علي لسان أمي ومن انشائها، لقد تنقلت بين أماكن كثيرة، وفقدت جميع من كانوا أقرباء لها أو جيرنا. بعضهم مات، بعضهم هاجر، بعضهم أخفته الحرب في طية من طياتها قبل أن تدخل المستشفي وينغلق عليها باب غرفة العمليات. كانت تقيم وحدها هناك في البيت الكبير.الرواية اذن.. سيرة حياة أمي مروية بلسانها، هي التي كانت تعتقد انها لاتملك شيئا مهما لتقوله!
هل يعني هذا أن الجنوب اللبناني بدأ يعرف طريقه للوجود من خلال الرواية، خصوصا اذا علمنا أن هناك أكثر من عمل روائي مسرحه الجنوب، مثل 'مريم الحكايا' لعلوية صبح ورواية حنان الشيخ الأخيرة 'حكايتي شرح يطول'؟الكاتبتان اللتان ذكرتهما كلتاهما من الجنوب، مثلما أنا. هذه المرة لايظهر الجنوب مكانا للمواجهة أو للقتال، بل مكان للعيش، في تأريخ أمي الموصوف أعلاه تأتي الحرب إلي النبطية مارة بها مثل خراب أو بلاء، في الادب السابق عن الجنوب كان لايري من المكان الا قتاليته ومواجهته، دائما تجد الأدب محاولا الابتعاد عن الهتاف المتعالي من حوله. ربما كانت الكتب التي ذكرت هي محاولة للقول أن هذا الجنوب مكان للعيش أيضا، وقد نسي المحاربون رافعو الرايات والألوية أنه كذلك.وكان هذا دافعي أيضا لكتابة روايتي الاولي 'بناية ماتيلد'، فقد كانت هيمنة السياسة وسلاحها وأفكارها شديدة علي بيروت إلي درجة جعلت أهل المدينة مختبئين في الظل، خائفين أن يرفعوا رؤوسهم، فيما حملة السلاح يبدو محتلين المدينة وموجودين فيها وحدهم. بناية ماتيلد كانت احتجاجا علي هؤلاء الذين كما تعلم تلاشوا بعد انقضاء الحرب وسريعا ما تبدد ذكرهم.في العودة إلي الكتابين اللذين ذكرتهما أعلاه ما يجعلني اندهش حقا من كون هذه الكتب وكتابي أيضا، عادت إلي الأمهات. وقد علمت مؤخرا أن المجلة البريطانية (جرانتا) المتخصصة في اعداد الملفات أصدرت أخيرا ما يقرب أن يكون كتابا كاملا عن الأم. أجدني وكأن العالم كله انتبه فجأة إلي الامومة. تلك التي ربما تذكر بأن الناس لم يعودوا كما كانوا، كما لو أنهم انتقلوا إلي أحضان أمهاتهم هاربين من عقائد القوة والعملية التي شبعوا من طغيانها عليهم كأن هؤلاء الناس ذهبوا إلي ذلك الجزء الأضعف من شخصياتهم في نزوع يلزم أن نفكر لكي ندرك أسبابه الحقيقية ربما.
هناك أيضا ظاهرة أخري، وهي ما أطلقنا عليه هنا في مصر الانفجار الروائي أي صدور أعمال روائية لاحصر لها، وهذه الظاهرة غير مقصورة علي مصر فقط كما تعلم بل في بلدان عربية عديدة ما السبب في رأيك؟كنت أعزو ازدهار الرواية في لبنان إلي الحرب. قبل ذلك كنت أقول بأن لاشيء يجري في لبنان حتي نكتبه رواية، قبل الحرب كنا ننتظر سنوات ثلاث أو أربع حتي نقرأ عن رواية جديدة، الآن باتت الحالة مختلفة، كأن كتلة الحرب انفجرت وتشظت وباتت مخاوفها وخيالاتها ومآسيها مكتوبة بأقلام روائيين كثيرين.لكنني بعد أن رأيت ان هذا ليس حال لبنان وحده، كان علي أن أبحث عن أسباب اضافية لازدهار الرواية، أقول أحيانا انها حيثما تكتب تشكل خروجا واحتجاجا علي العقائد السياسية ذات الطبيعة الانفعالية التي انخرطنا فيها سنوات. الرواية مؤشر مبكر علي انفراط تلك العقائد التي كان يليق بها كثيرا الشعر الحماسي والأغنيات الحماسية، كتابة الروائية تسعي إلي رفع الأزمات ونشرها علي أسطح المجتمعات التي غلبها الزعم بأنها متجانسة وبأن أهلها كل واحد. ربما يستطيع واحدنا أن يربط بين ظهور الروايات بالاسباب السياسية التي أدت إليها، لكنني لا أجد هذا مهما علي أي حال، فقط أري أن البشر في وجداننا بدأوا ينظرون إلي أنفسهم ويفكرون فيما يرونه، وهذا في اعتقادي سبب كاف لظهور السير والروايات.فجأة، في وقت ما من عام 1982 بدأت أقرأ روايات عربية يغلب عليها طابع الاحساس بالجسم وبتذكر الطفولة وحميميتها مع الاهل، بدأ ذلك وكأنه انفجر لحظة واحدة لدي كتاب كثيرين، قبل ذلك لم تكن هذه الحساسية موجودة في الادب العربي الحديث. وكان هذا أيضا دالا علي انفراط الحكاية وتحول الكتابة إلي قيمة في ذاتها بصرف النظر عما يصنع من الرواية رواية، ذلك التحسس بدا لي وكأنه خطوة أولي نحو النظر إلي الذات وإلي التاريخ الشخصي.. هذا كان يحدث في مصر كما في لبنان كما في المغرب في تزامن لافت.
إذن.. أين الشعر.. هل الرواية احتلت مكان الشعر؟في كل مكان تجد من يقول ان الرواية حلت محل الشعر. وكنت أعتقد بذلك أيضا مادام شعراء أعرفهم مكرسين، مالوا إلي كتابة الرواية، مؤخرا دعاني زميلي وصديقي يوسف بزي إلي ملتقي شعري يعقد في مقهي بيروتي كل نهار جمعة، عرفني هذا الملتقي علي شعراء جدد كثيرين شبان، إلي الحد الذي جعلني أقول أن الشعر يسترد المبادرة. كانوا كثيرين ومتنوعي النبرة، وقد سألني واحد ممن كانوا هناك في ذلك اللقاء إن كان ما أراه يدل علي عودة الشعر، مذكرا إياي بأن هذا الجيل الجديد ليس فيه من هو مقبل علي كتابة رواية.أحببت ذلك الشعر، لكنني وجدت فيه قدرا من التفلت والسخرية والانقلاب علي الجد مما جعلني أضم الشعر نفسه إلي ما يسخر منه هؤلاء الشعراء الجدد، ذلك الشعر اذن كان أقرب إلي الانقلاب علي الشعر أو التحدي لتاريخه، وإذ طلب مني بعضهم أن أقرأ قصيدة للسياب الذي يعرفون كم أحب شعره، علق بعض منهم علي شعر السياب بالقول: إنه قديم وقد انتهي غرضه. لا أعرف أين ينبغي أن نضع ما يكتبه هؤلاء الشعراء الجدد، وإلي ماذا ستفضي هذه الكتابة، لكن ينبغي أن أقول هنا أن في ذلك الشعر قدر من النثرية المتعمدة أجدها مشتركة بين الشعر نفسه، والنصوص القصصية والروائية. كأننا ازاء مخيلة كتابية واحدة، وان كان هذا الشعر الساخر الهازيء يبدو متقدما علي سواه من عناصرها، ذلك أن فيه تلك الجدة اللامعة التي تسرق الضوء مما عداها وترده قديما في لحظة واحدة.دائما تكون للسخرية هذه القوة الناضحة التي ترد ما يعاصرها إلي زمن فائت قديم، ربما يمكنني ألا أسمي هذا شعرا. الأصح أن نقول أننا نشهد موجه من الاقبال علي التعبير. فهؤلاء الشعراء الشباب لم يأتوا إلي شعرهم من الشعر، بل من شعورهم بأن القول يكون أفضل كلما تمكن من التحرر من أي إرث سبقه، لاحظ مثلا أن السينمائيين باتوا يميلون إلي الكتابة ألاحظ مثلا اتساع دائرة الراغبين في قراءة ما يكتبونه علي دائرتهم الضيقة ونشره تاليا في الصحف، ما نشهده الآن فيما أحسب هو ذلك الميل إلي التعبير سواء كان ذلك شعرا أو كتابة نصية أو قصصا أو غير ذلك.
وهل هناك سمات أخري لشعر الشباب؟الاحتفال بالتفكك. الصورة المركبة التي طالما أغرمنا بها في شعر السياب من قصيدته أنشودة المطر، والتي هي:عيناك غابت نخيل ساعة السحرأو شرفتان راح ينأي عنهما القمرعيناك حين تبسمان تورق الكروموترقص الأضواء كالأقمار في نهريرجه المجداف وهنا ساعة السحرفينبض في غوريهما النجوموتفرقان في ضباب من أسي شفيفهذه الصورة التي تبدو لامتناهية هي أكثر ما أراهم يعافونه من الشعر، يريدون الكلام أن يكون فجا سريعا منقسما علي نفسه غير واعد بالتماسك، فهذه ميزات باتت من متاع جيلنا القديم، نحن الذين كنا هكذا نحب الشعر متدفقا متواصلا ومتماسكا في الوقت نفسه، يخيل إلي أن نقول ان هؤلاء الكتبة هم زعران الأدب وحرافيشه كما تقولون أنتم في مصر.
لك تجربة طويلة ممتدة في الصحافة الثقافية والآن أنت مسئول عن ملحق 'نوافد' الاسبوعي في صحيفة المستقبل اللبنانية.. هل نتحدث عن هذه التجربة في الصحافة الثقافية؟في يوم ما من عام 1980 قال لي طلال سليمان صاحب جريدة السفير ورئيس تحريرها أن أتولي تحرير الملحق الثقافي الاسبوعي للسفير ولم يمهلني الا أربعة أيام أو خمسة، كنت بلا تجربة في هذا المجال، اذ أن عملي في صحيفة النداء اقتصر علي الكتابة، كما أن النداء لم تكن صحيفة أولي علي أي حال. أذكر أن ما كان يشغل لبنان واللبنانيين آنذاك هو رؤيتهم لبلدهم يفقد تدريجيا مقومات وجوده السابق كان فيهم حنين أي الزمن الذي سبق الحرب.في غمرة ذلك قام، رجل اسمه جورج الزعني بعمل معرض للصور الفوتوغرافية ودعا أهل بيروت جميعا إلي المساهمة فيه عبر ارسال صورهم العائلية، كان ذلك احتفالا عاما أو احتفالا أول يشترك في اقامته اللبنانيون جميعا حيث علقت آلاف الصور علي جدران ذلك المعرض، وأنا بجريدة السفير نشرت صفحة كاملة من تلك الصور مشاركا بذلك في الاعلان عن بدء عصر الحنين، ذلك الذي استمر سنوات بعد هذا.. منذ هذه اللحظة لم أقسر الصفحات الثقافية علي المواد الادبية والفنية وحدها.وقد بقيت أري أن الثقافة أوسع من الكتابي أو الفني الخالص الذي درجت الصفحات الثقافية علي الاقتصار عليه. وفي ملحق نوافذ الذي بدأت في اصداره مع الزملاء منذ أربع سنوات درجت علي جعل التفكير الثقافي شاملا لنواحي الحياة جميعا: الأدب والفن والعمارة وطرق العيش وتزيين البيوت وهجرات الناس مع ما يتصل بذلك من تغير في الذهنيات وكل ما يمكن أن يكون أشياء متغيرة في الحياة.والحقيقة أنني لم أخترع هذا الاتجاه في اشتمال الثقافة علي ما نعيشه، اذ سبقتني إلي ذلك كتب ومجلات كثيرة متخصصة تصدر في بلدان العالم. ثم انني رأيت ان اقتصار التفكير الثقافي علي ميادين محددة أم ينتسب إلي هيمنة السياسة التي تعين للثقافة وظيفة محددة.لعلي أري في التوسع الذي ذكرته أعلاه قدر من الاحتجاج علي تلك الهيمنة السياسية نفسها التي جعلت العالم ضيقا، ربما تذكر مثلي كيف أننا علي مدي عقود لم يتحرر تفكيرنا من مقولات الاستعمار ومواجهته والامبريالية والتصدي للرجعية.. كان هذا كل عقلنا، أو هكذا أريد لنا، حتي أن صديقا لي في بيروت قال لي مرة: ان تلك الهيمنة السياسية بلغت حدا جعل الاطباء العرب الذين اجتمعوا في بيروت يصدرون بيانا في ختام اجتماعهم، يدعون فيه إلي التصدي لكل محاولات الهيمنة التي تقوم بها القوي الرجعية المتحالفة مع الاستعمار!ذكرني هذا الصديق يومها أن هؤلاء الأطباء نسوا أن يعلقوا ببند واحد علي الجسم العربي وامراضه! هذا المجال الضيق لم يرض به أسلافنا العرب، لقد كتبوا عن الصيد بالبازي مثلا كتبا كثيرة، وكتبوا في الطب والفلك وعلم النجوم وتشريح الاعضاء والفقه، وإلي ما يتعدي هذا كتبا يصعب حصرها.كان علينا اذن أن نخرج مما وضعنا أنفسنا فيه في الصفحات الثقافية التي أصدرتها مع زملاء آخرين، كنت أحاول وان علي ذلك النطاق الضيق أن أخرج من الضيق الذي وضعنا فيه.
لابد اذن أنك تتابع الصفحات الثقافية في مختلف الصحف والمجلات، كما تتابع 'أخبار الأدب'.. ما رأيك فيها؟هناك طبعا صفحات وملاحق ثقافية كثيرة ساعدتنا علي تقريبنا مما يجري في الأدب. ملحق النهار مثلا في أواخر الستينيات كان زادا يوميا لنا، وأري أننا من دونه كنا سنضيع، بل ان هذا الملحق شكل، رأيا عاما ثقافيا في ذلك الوقت، صحيفة السفير ايضا التقط ملحقها الثقافي لحظة ثنائية هامة في سنوات الثمانينيات مما أتاح ظهور رأي عام ثقافي جديد. في مصر مثلا أري أن قيام مجلة خاصة بالأدب خطوة تستأنف تلك المتابعة الصانعة لرأي عام أدبي وثقافي، وربما كانت توسيعا لتلك المحاولات الكثيرة التي سبقت، في لبنان مثلا حيث أعيش، لا أعرف كيف كان يمكن وصول الثقافة المصرية إلينا أو عودتها إلينا من دون أخبار الأدب.
هل نتحدث عن علاقتك بالثقافة المصرية؟أول ما كنت أقرأه خارج كتب القراءة في المدرسة مجلة سمير التي كانت تصدر في مصر متوجهة للأطفال. كنت في العاشرة من عمري حين كنت أنتظر ابتداء من بعد ظهر كل خميس أنتظر أخي ليأتي لي بالعدد الجديد من تلك المجلة.في السنوات التي تلت، كانت الثقافة هي ما يأتي من مصر: طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ الذي قرأت له وأنا مازلت قبل عمر المراهقة ما يزيد عن العشرين كتاباوكذلك لاحسان عبدالقدوس ويوسف ادريس وغيرهما. الأغنيات أيضا كانت تأتي من مصر وكذلك السينما التي نعرف كلما كبرنا انها لم تكن أمرا عارضا في حياتنا. أستطيع القول أن جيلنا، القاريء بالعربية، كان جيلا مصريا ثقافيا. طبعا قرأنا كتبا مترجمة، وحتي هذه كانت تأتي من مصر.أدركت في فترة لاحقة ان هذا لم يكن خاصا بلبنان وحده، وان القراء العرب جميعهم كانوا يرون الثقافة قادمة من مصر، ربما ما تغير الآن هو كوننا أكثر اتصالا بالثقافة المترجمة، وأحسب أن المصريين اقبلوا مثلنا علي ذلك، فالثقافة التي تأتينا من الخارج تقترح علينا أنساق التفكير وأبواب التخيل ولا أجد هذا سيئا.وانطلاقا من كوني متعلقا بالثقافة المصرية أجد أنني أحب أن أكون موجودا في حركتها، يقول لي الأصدقاء هنا أن كتبي لم تصل. أو أنها مرتفعة الثمن علي القاريء المصري. أيضا حين أتعرف علي شخص جديد يقول لي: أنت صاحب بناية ما تيلد.. هذه التي كنت قد نشرتها منذ 22 سنة، وقد أصدرت بعدها بالطبع ثمانية كتب.في مرات أقول بأن خطوط التواصل كانت أكثر انفتاحا في زمن بناية ماتيلد ذاك، وفي مرات أخري أقول أن الفضل في معرفة بناية ماتيلد يرجع لكونها نشرت في طبعة شعبية في مصر، بعضهم يقول ان المصريين مكتفون بأنفسهم أو بأدبهم، وهذا طبعا ما لا ألاحظه الآن حيث ان الروائيين العرب لم يجتمعوا في مكان كما يجتمعون في القاهرة.أما عن انطواء مصر السابق علي نفسها فيمكن أن أرده إلي انطواء كل الدول العربية علي نفسها أيضا. وهذا ما حصل في أثناء الحرب الأهلية في بيروت التي كانت دور نشرها قبل اندلاع الحرب تلعب دور واسطة الاتصال بين القراء العرب وكتابهم، لقد انقطع ذلك بسبب حرب لبنان وقيام دور نشر في معظم الدول العربية. لا أخفيك مثلا أنني لا أعلم بما يصدر في المغرب مثلا من كتب، مؤخرا صارت تصلنا الكتب التي تصدر في سوريا، كتب مصر انقطعت سنوات عنا ولم نعد نقرأ للمصريين إلا من تطبع كتبهم في بيروت. لا أحسب أن أسباب هذا التنوع أو التشتت يرجع فقط إلي انهيار وظيفة النشر في بيروت خصوصا حين الاحظ أن الانكفاء بات حاجة سياسية ووطنية لكل دولة من الدول العربية، تعرف كم شهدنا من مواجهات بين هذه الدول بعضها ضد بعض وكل جار عربي خاصم جاره العربي، مما خلق تلك النزعة المخالفة لزماننا، حيث كنا لانجد ضيرا في أن ننسب إلي ثقافة مصر مثلا، نحن الذين في لبنان.
نعود إلي عملك بوصفك محررا ثقافيا، له تجربة طويلة في هذا المجال.. ألا يحدث التباس ما أو تناقض بين هذا العمل وبين وجهك الآخر كروائي له عدد كبير من الأعمال الروائية وموجود علي الساحة الأدبية بهذه الصفة؟أنا أري أنه كان من الممكن أن تفوتني الكتابة لو لم أعمل في الصحافة. صحيح أنها كانت هاجسا وشغفا منذ طفولتي، إلا أن هذا كان حال الكثيرين ولم ينته بهم الأمر إلي أن يصيروا كتابا، الصحافة الثقافية أبقت في ذلك الشغف، بل وجعلتني مقيما بين الكتاب، واحدا منهم، متابعا لكتاباتهم في أول الأمر، ثم كاتبا مثلهم.كذلك تعمل الصحافة الثقافية علي تحرير الكاتب من العزلة والجمود، الخطر الأكبر يتأتي من بقاء الكاتب من زمنه الأول أو ثقافته الأولي متعصبا لها ومقيما فيها، كونك في الصحافة الثقافية أمر يحفزك علي أن تكون في الجديد، ويذكرك دائما بأنك ان تخلفت عنه، ينبغي عليك أن تستلحق ما فاتك. لا أعرف ان كانت هذه تجربة الجميع، خصوصا وأن أكثر الكتاب هم مثلي ومثلك يشتغلون في الصحافة الثقافية. ورأيي أن هذه المهنة هي أفضل المهن للكاتب، فيما يستطيع ألا يكون زائدا عن الحاجة.أذكر هنا الجيل الذي سبقنا والذي اشتغل في مهن التعليم مثلا، حيث كان كما ذكر لي كثيرون من كتابه، انهم كانوا لايفعلون شيئا في الوظيفة الا كتابة كتبهم، لا أخفيك أنني أدركت هذا الجيل وكنت مثله أكتب رواياتي في غرفة النظارة بإحدي المدارس الثانوية.
'لعب حي البياض' روايتك التي نقدم هذا المجتزأ منها في الصفحات التالية.. كيف تراها بعد أن انتهيت منها؟في يفاعتي كنت ميالا لأبي. كان وسيما طويل القامة كريما، والتحسن الذي طرأ علي وضعه المالي والاجتماعي، انعكس عليه خصوصا دون أمي. كان بالتعبير الشائع مثلي الأعلي، وكنت أري أمي شخصا ساكنا لاتأخذه بسهولة عادات سكننا الجديد في أحد بيوت بيروت الراقية نسبيا طبعا. كانت أقل تكيفا منا جميعا في هذا السكن الجديد، وقد أدي ذلك بها للانعزال عن سكان البناية جميعهم باقية هناك في مدينتها الصغيرة النبطية، بل وفي حيها الذي ظلت تعتز به طوال حياتها، فتقول مثلا 'ليس هكذا تحب أن تتزين نساء حي البياض'.متأخرا عرفت وأنا في أربعينياتي أن أمي كانت تتحلي بحكمة هي مما لايقدر عليه السريع التكيف الذين سيبدون سريعي العطب بعد ذلك، لم تخف من المرض الذي أصابها، والذي جعلها تفقد قوة جسمها شهرا بعد شهر. كانت تقول لي ان الانسان سيموت وأن ذلك حاصل لامحالة، هذا الكلام الشائع جدا أو العادي جدا كانت تستطيع أن تقوله كأنه حكمة اختصت بها وحدها، وقد بدا لي أنها حقا لاتخاف من الموت، بل وانها لاتخاف من ضعف وظائف جسمها. ومن هنا، أي أنني مع تقدمي في العمر اكتشفت أنني أقرب إلي أمي مني إلي أبي. وهو بعد مماتها بدا فاقدا التوازن وفاقدا الخبرة التي تمكنه من الاستمرار في العيش، طبعا هذا مخالف لسطوته عليها وقوته الظاهرة أمامها، تلك القوة التي أدركت كم أنها هشة مقابل سكون أمي وضعفها الظاهري.الرواية الجديدة عنها، ويكاد أبي الا يكون موجودا فيها، علي الرغم من أن هذا الكتاب كان ينبغي أن يكون نصفه له.. انه مرثية للحياة، وفي نفس الوقت تاريخ شخصي للنبطية مرويا، أو متخيلا، علي لسان أمي ومن انشائها، لقد تنقلت بين أماكن كثيرة، وفقدت جميع من كانوا أقرباء لها أو جيرنا. بعضهم مات، بعضهم هاجر، بعضهم أخفته الحرب في طية من طياتها قبل أن تدخل المستشفي وينغلق عليها باب غرفة العمليات. كانت تقيم وحدها هناك في البيت الكبير.الرواية اذن.. سيرة حياة أمي مروية بلسانها، هي التي كانت تعتقد انها لاتملك شيئا مهما لتقوله!
هل يعني هذا أن الجنوب اللبناني بدأ يعرف طريقه للوجود من خلال الرواية، خصوصا اذا علمنا أن هناك أكثر من عمل روائي مسرحه الجنوب، مثل 'مريم الحكايا' لعلوية صبح ورواية حنان الشيخ الأخيرة 'حكايتي شرح يطول'؟الكاتبتان اللتان ذكرتهما كلتاهما من الجنوب، مثلما أنا. هذه المرة لايظهر الجنوب مكانا للمواجهة أو للقتال، بل مكان للعيش، في تأريخ أمي الموصوف أعلاه تأتي الحرب إلي النبطية مارة بها مثل خراب أو بلاء، في الادب السابق عن الجنوب كان لايري من المكان الا قتاليته ومواجهته، دائما تجد الأدب محاولا الابتعاد عن الهتاف المتعالي من حوله. ربما كانت الكتب التي ذكرت هي محاولة للقول أن هذا الجنوب مكان للعيش أيضا، وقد نسي المحاربون رافعو الرايات والألوية أنه كذلك.وكان هذا دافعي أيضا لكتابة روايتي الاولي 'بناية ماتيلد'، فقد كانت هيمنة السياسة وسلاحها وأفكارها شديدة علي بيروت إلي درجة جعلت أهل المدينة مختبئين في الظل، خائفين أن يرفعوا رؤوسهم، فيما حملة السلاح يبدو محتلين المدينة وموجودين فيها وحدهم. بناية ماتيلد كانت احتجاجا علي هؤلاء الذين كما تعلم تلاشوا بعد انقضاء الحرب وسريعا ما تبدد ذكرهم.في العودة إلي الكتابين اللذين ذكرتهما أعلاه ما يجعلني اندهش حقا من كون هذه الكتب وكتابي أيضا، عادت إلي الأمهات. وقد علمت مؤخرا أن المجلة البريطانية (جرانتا) المتخصصة في اعداد الملفات أصدرت أخيرا ما يقرب أن يكون كتابا كاملا عن الأم. أجدني وكأن العالم كله انتبه فجأة إلي الامومة. تلك التي ربما تذكر بأن الناس لم يعودوا كما كانوا، كما لو أنهم انتقلوا إلي أحضان أمهاتهم هاربين من عقائد القوة والعملية التي شبعوا من طغيانها عليهم كأن هؤلاء الناس ذهبوا إلي ذلك الجزء الأضعف من شخصياتهم في نزوع يلزم أن نفكر لكي ندرك أسبابه الحقيقية ربما.
هناك أيضا ظاهرة أخري، وهي ما أطلقنا عليه هنا في مصر الانفجار الروائي أي صدور أعمال روائية لاحصر لها، وهذه الظاهرة غير مقصورة علي مصر فقط كما تعلم بل في بلدان عربية عديدة ما السبب في رأيك؟كنت أعزو ازدهار الرواية في لبنان إلي الحرب. قبل ذلك كنت أقول بأن لاشيء يجري في لبنان حتي نكتبه رواية، قبل الحرب كنا ننتظر سنوات ثلاث أو أربع حتي نقرأ عن رواية جديدة، الآن باتت الحالة مختلفة، كأن كتلة الحرب انفجرت وتشظت وباتت مخاوفها وخيالاتها ومآسيها مكتوبة بأقلام روائيين كثيرين.لكنني بعد أن رأيت ان هذا ليس حال لبنان وحده، كان علي أن أبحث عن أسباب اضافية لازدهار الرواية، أقول أحيانا انها حيثما تكتب تشكل خروجا واحتجاجا علي العقائد السياسية ذات الطبيعة الانفعالية التي انخرطنا فيها سنوات. الرواية مؤشر مبكر علي انفراط تلك العقائد التي كان يليق بها كثيرا الشعر الحماسي والأغنيات الحماسية، كتابة الروائية تسعي إلي رفع الأزمات ونشرها علي أسطح المجتمعات التي غلبها الزعم بأنها متجانسة وبأن أهلها كل واحد. ربما يستطيع واحدنا أن يربط بين ظهور الروايات بالاسباب السياسية التي أدت إليها، لكنني لا أجد هذا مهما علي أي حال، فقط أري أن البشر في وجداننا بدأوا ينظرون إلي أنفسهم ويفكرون فيما يرونه، وهذا في اعتقادي سبب كاف لظهور السير والروايات.فجأة، في وقت ما من عام 1982 بدأت أقرأ روايات عربية يغلب عليها طابع الاحساس بالجسم وبتذكر الطفولة وحميميتها مع الاهل، بدأ ذلك وكأنه انفجر لحظة واحدة لدي كتاب كثيرين، قبل ذلك لم تكن هذه الحساسية موجودة في الادب العربي الحديث. وكان هذا أيضا دالا علي انفراط الحكاية وتحول الكتابة إلي قيمة في ذاتها بصرف النظر عما يصنع من الرواية رواية، ذلك التحسس بدا لي وكأنه خطوة أولي نحو النظر إلي الذات وإلي التاريخ الشخصي.. هذا كان يحدث في مصر كما في لبنان كما في المغرب في تزامن لافت.
إذن.. أين الشعر.. هل الرواية احتلت مكان الشعر؟في كل مكان تجد من يقول ان الرواية حلت محل الشعر. وكنت أعتقد بذلك أيضا مادام شعراء أعرفهم مكرسين، مالوا إلي كتابة الرواية، مؤخرا دعاني زميلي وصديقي يوسف بزي إلي ملتقي شعري يعقد في مقهي بيروتي كل نهار جمعة، عرفني هذا الملتقي علي شعراء جدد كثيرين شبان، إلي الحد الذي جعلني أقول أن الشعر يسترد المبادرة. كانوا كثيرين ومتنوعي النبرة، وقد سألني واحد ممن كانوا هناك في ذلك اللقاء إن كان ما أراه يدل علي عودة الشعر، مذكرا إياي بأن هذا الجيل الجديد ليس فيه من هو مقبل علي كتابة رواية.أحببت ذلك الشعر، لكنني وجدت فيه قدرا من التفلت والسخرية والانقلاب علي الجد مما جعلني أضم الشعر نفسه إلي ما يسخر منه هؤلاء الشعراء الجدد، ذلك الشعر اذن كان أقرب إلي الانقلاب علي الشعر أو التحدي لتاريخه، وإذ طلب مني بعضهم أن أقرأ قصيدة للسياب الذي يعرفون كم أحب شعره، علق بعض منهم علي شعر السياب بالقول: إنه قديم وقد انتهي غرضه. لا أعرف أين ينبغي أن نضع ما يكتبه هؤلاء الشعراء الجدد، وإلي ماذا ستفضي هذه الكتابة، لكن ينبغي أن أقول هنا أن في ذلك الشعر قدر من النثرية المتعمدة أجدها مشتركة بين الشعر نفسه، والنصوص القصصية والروائية. كأننا ازاء مخيلة كتابية واحدة، وان كان هذا الشعر الساخر الهازيء يبدو متقدما علي سواه من عناصرها، ذلك أن فيه تلك الجدة اللامعة التي تسرق الضوء مما عداها وترده قديما في لحظة واحدة.دائما تكون للسخرية هذه القوة الناضحة التي ترد ما يعاصرها إلي زمن فائت قديم، ربما يمكنني ألا أسمي هذا شعرا. الأصح أن نقول أننا نشهد موجه من الاقبال علي التعبير. فهؤلاء الشعراء الشباب لم يأتوا إلي شعرهم من الشعر، بل من شعورهم بأن القول يكون أفضل كلما تمكن من التحرر من أي إرث سبقه، لاحظ مثلا أن السينمائيين باتوا يميلون إلي الكتابة ألاحظ مثلا اتساع دائرة الراغبين في قراءة ما يكتبونه علي دائرتهم الضيقة ونشره تاليا في الصحف، ما نشهده الآن فيما أحسب هو ذلك الميل إلي التعبير سواء كان ذلك شعرا أو كتابة نصية أو قصصا أو غير ذلك.
وهل هناك سمات أخري لشعر الشباب؟الاحتفال بالتفكك. الصورة المركبة التي طالما أغرمنا بها في شعر السياب من قصيدته أنشودة المطر، والتي هي:عيناك غابت نخيل ساعة السحرأو شرفتان راح ينأي عنهما القمرعيناك حين تبسمان تورق الكروموترقص الأضواء كالأقمار في نهريرجه المجداف وهنا ساعة السحرفينبض في غوريهما النجوموتفرقان في ضباب من أسي شفيفهذه الصورة التي تبدو لامتناهية هي أكثر ما أراهم يعافونه من الشعر، يريدون الكلام أن يكون فجا سريعا منقسما علي نفسه غير واعد بالتماسك، فهذه ميزات باتت من متاع جيلنا القديم، نحن الذين كنا هكذا نحب الشعر متدفقا متواصلا ومتماسكا في الوقت نفسه، يخيل إلي أن نقول ان هؤلاء الكتبة هم زعران الأدب وحرافيشه كما تقولون أنتم في مصر.
لك تجربة طويلة ممتدة في الصحافة الثقافية والآن أنت مسئول عن ملحق 'نوافد' الاسبوعي في صحيفة المستقبل اللبنانية.. هل نتحدث عن هذه التجربة في الصحافة الثقافية؟في يوم ما من عام 1980 قال لي طلال سليمان صاحب جريدة السفير ورئيس تحريرها أن أتولي تحرير الملحق الثقافي الاسبوعي للسفير ولم يمهلني الا أربعة أيام أو خمسة، كنت بلا تجربة في هذا المجال، اذ أن عملي في صحيفة النداء اقتصر علي الكتابة، كما أن النداء لم تكن صحيفة أولي علي أي حال. أذكر أن ما كان يشغل لبنان واللبنانيين آنذاك هو رؤيتهم لبلدهم يفقد تدريجيا مقومات وجوده السابق كان فيهم حنين أي الزمن الذي سبق الحرب.في غمرة ذلك قام، رجل اسمه جورج الزعني بعمل معرض للصور الفوتوغرافية ودعا أهل بيروت جميعا إلي المساهمة فيه عبر ارسال صورهم العائلية، كان ذلك احتفالا عاما أو احتفالا أول يشترك في اقامته اللبنانيون جميعا حيث علقت آلاف الصور علي جدران ذلك المعرض، وأنا بجريدة السفير نشرت صفحة كاملة من تلك الصور مشاركا بذلك في الاعلان عن بدء عصر الحنين، ذلك الذي استمر سنوات بعد هذا.. منذ هذه اللحظة لم أقسر الصفحات الثقافية علي المواد الادبية والفنية وحدها.وقد بقيت أري أن الثقافة أوسع من الكتابي أو الفني الخالص الذي درجت الصفحات الثقافية علي الاقتصار عليه. وفي ملحق نوافذ الذي بدأت في اصداره مع الزملاء منذ أربع سنوات درجت علي جعل التفكير الثقافي شاملا لنواحي الحياة جميعا: الأدب والفن والعمارة وطرق العيش وتزيين البيوت وهجرات الناس مع ما يتصل بذلك من تغير في الذهنيات وكل ما يمكن أن يكون أشياء متغيرة في الحياة.والحقيقة أنني لم أخترع هذا الاتجاه في اشتمال الثقافة علي ما نعيشه، اذ سبقتني إلي ذلك كتب ومجلات كثيرة متخصصة تصدر في بلدان العالم. ثم انني رأيت ان اقتصار التفكير الثقافي علي ميادين محددة أم ينتسب إلي هيمنة السياسة التي تعين للثقافة وظيفة محددة.لعلي أري في التوسع الذي ذكرته أعلاه قدر من الاحتجاج علي تلك الهيمنة السياسية نفسها التي جعلت العالم ضيقا، ربما تذكر مثلي كيف أننا علي مدي عقود لم يتحرر تفكيرنا من مقولات الاستعمار ومواجهته والامبريالية والتصدي للرجعية.. كان هذا كل عقلنا، أو هكذا أريد لنا، حتي أن صديقا لي في بيروت قال لي مرة: ان تلك الهيمنة السياسية بلغت حدا جعل الاطباء العرب الذين اجتمعوا في بيروت يصدرون بيانا في ختام اجتماعهم، يدعون فيه إلي التصدي لكل محاولات الهيمنة التي تقوم بها القوي الرجعية المتحالفة مع الاستعمار!ذكرني هذا الصديق يومها أن هؤلاء الأطباء نسوا أن يعلقوا ببند واحد علي الجسم العربي وامراضه! هذا المجال الضيق لم يرض به أسلافنا العرب، لقد كتبوا عن الصيد بالبازي مثلا كتبا كثيرة، وكتبوا في الطب والفلك وعلم النجوم وتشريح الاعضاء والفقه، وإلي ما يتعدي هذا كتبا يصعب حصرها.كان علينا اذن أن نخرج مما وضعنا أنفسنا فيه في الصفحات الثقافية التي أصدرتها مع زملاء آخرين، كنت أحاول وان علي ذلك النطاق الضيق أن أخرج من الضيق الذي وضعنا فيه.
لابد اذن أنك تتابع الصفحات الثقافية في مختلف الصحف والمجلات، كما تتابع 'أخبار الأدب'.. ما رأيك فيها؟هناك طبعا صفحات وملاحق ثقافية كثيرة ساعدتنا علي تقريبنا مما يجري في الأدب. ملحق النهار مثلا في أواخر الستينيات كان زادا يوميا لنا، وأري أننا من دونه كنا سنضيع، بل ان هذا الملحق شكل، رأيا عاما ثقافيا في ذلك الوقت، صحيفة السفير ايضا التقط ملحقها الثقافي لحظة ثنائية هامة في سنوات الثمانينيات مما أتاح ظهور رأي عام ثقافي جديد. في مصر مثلا أري أن قيام مجلة خاصة بالأدب خطوة تستأنف تلك المتابعة الصانعة لرأي عام أدبي وثقافي، وربما كانت توسيعا لتلك المحاولات الكثيرة التي سبقت، في لبنان مثلا حيث أعيش، لا أعرف كيف كان يمكن وصول الثقافة المصرية إلينا أو عودتها إلينا من دون أخبار الأدب.
هل نتحدث عن علاقتك بالثقافة المصرية؟أول ما كنت أقرأه خارج كتب القراءة في المدرسة مجلة سمير التي كانت تصدر في مصر متوجهة للأطفال. كنت في العاشرة من عمري حين كنت أنتظر ابتداء من بعد ظهر كل خميس أنتظر أخي ليأتي لي بالعدد الجديد من تلك المجلة.في السنوات التي تلت، كانت الثقافة هي ما يأتي من مصر: طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ الذي قرأت له وأنا مازلت قبل عمر المراهقة ما يزيد عن العشرين كتاباوكذلك لاحسان عبدالقدوس ويوسف ادريس وغيرهما. الأغنيات أيضا كانت تأتي من مصر وكذلك السينما التي نعرف كلما كبرنا انها لم تكن أمرا عارضا في حياتنا. أستطيع القول أن جيلنا، القاريء بالعربية، كان جيلا مصريا ثقافيا. طبعا قرأنا كتبا مترجمة، وحتي هذه كانت تأتي من مصر.أدركت في فترة لاحقة ان هذا لم يكن خاصا بلبنان وحده، وان القراء العرب جميعهم كانوا يرون الثقافة قادمة من مصر، ربما ما تغير الآن هو كوننا أكثر اتصالا بالثقافة المترجمة، وأحسب أن المصريين اقبلوا مثلنا علي ذلك، فالثقافة التي تأتينا من الخارج تقترح علينا أنساق التفكير وأبواب التخيل ولا أجد هذا سيئا.وانطلاقا من كوني متعلقا بالثقافة المصرية أجد أنني أحب أن أكون موجودا في حركتها، يقول لي الأصدقاء هنا أن كتبي لم تصل. أو أنها مرتفعة الثمن علي القاريء المصري. أيضا حين أتعرف علي شخص جديد يقول لي: أنت صاحب بناية ما تيلد.. هذه التي كنت قد نشرتها منذ 22 سنة، وقد أصدرت بعدها بالطبع ثمانية كتب.في مرات أقول بأن خطوط التواصل كانت أكثر انفتاحا في زمن بناية ماتيلد ذاك، وفي مرات أخري أقول أن الفضل في معرفة بناية ماتيلد يرجع لكونها نشرت في طبعة شعبية في مصر، بعضهم يقول ان المصريين مكتفون بأنفسهم أو بأدبهم، وهذا طبعا ما لا ألاحظه الآن حيث ان الروائيين العرب لم يجتمعوا في مكان كما يجتمعون في القاهرة.أما عن انطواء مصر السابق علي نفسها فيمكن أن أرده إلي انطواء كل الدول العربية علي نفسها أيضا. وهذا ما حصل في أثناء الحرب الأهلية في بيروت التي كانت دور نشرها قبل اندلاع الحرب تلعب دور واسطة الاتصال بين القراء العرب وكتابهم، لقد انقطع ذلك بسبب حرب لبنان وقيام دور نشر في معظم الدول العربية. لا أخفيك مثلا أنني لا أعلم بما يصدر في المغرب مثلا من كتب، مؤخرا صارت تصلنا الكتب التي تصدر في سوريا، كتب مصر انقطعت سنوات عنا ولم نعد نقرأ للمصريين إلا من تطبع كتبهم في بيروت. لا أحسب أن أسباب هذا التنوع أو التشتت يرجع فقط إلي انهيار وظيفة النشر في بيروت خصوصا حين الاحظ أن الانكفاء بات حاجة سياسية ووطنية لكل دولة من الدول العربية، تعرف كم شهدنا من مواجهات بين هذه الدول بعضها ضد بعض وكل جار عربي خاصم جاره العربي، مما خلق تلك النزعة المخالفة لزماننا، حيث كنا لانجد ضيرا في أن ننسب إلي ثقافة مصر مثلا، نحن الذين في لبنان.
نعود إلي عملك بوصفك محررا ثقافيا، له تجربة طويلة في هذا المجال.. ألا يحدث التباس ما أو تناقض بين هذا العمل وبين وجهك الآخر كروائي له عدد كبير من الأعمال الروائية وموجود علي الساحة الأدبية بهذه الصفة؟أنا أري أنه كان من الممكن أن تفوتني الكتابة لو لم أعمل في الصحافة. صحيح أنها كانت هاجسا وشغفا منذ طفولتي، إلا أن هذا كان حال الكثيرين ولم ينته بهم الأمر إلي أن يصيروا كتابا، الصحافة الثقافية أبقت في ذلك الشغف، بل وجعلتني مقيما بين الكتاب، واحدا منهم، متابعا لكتاباتهم في أول الأمر، ثم كاتبا مثلهم.كذلك تعمل الصحافة الثقافية علي تحرير الكاتب من العزلة والجمود، الخطر الأكبر يتأتي من بقاء الكاتب من زمنه الأول أو ثقافته الأولي متعصبا لها ومقيما فيها، كونك في الصحافة الثقافية أمر يحفزك علي أن تكون في الجديد، ويذكرك دائما بأنك ان تخلفت عنه، ينبغي عليك أن تستلحق ما فاتك. لا أعرف ان كانت هذه تجربة الجميع، خصوصا وأن أكثر الكتاب هم مثلي ومثلك يشتغلون في الصحافة الثقافية. ورأيي أن هذه المهنة هي أفضل المهن للكاتب، فيما يستطيع ألا يكون زائدا عن الحاجة.أذكر هنا الجيل الذي سبقنا والذي اشتغل في مهن التعليم مثلا، حيث كان كما ذكر لي كثيرون من كتابه، انهم كانوا لايفعلون شيئا في الوظيفة الا كتابة كتبهم، لا أخفيك أنني أدركت هذا الجيل وكنت مثله أكتب رواياتي في غرفة النظارة بإحدي المدارس الثانوية.