جريدة النهار
الاحد 18 آذار 2007 - السنة 74 - العدد 22949
سوق الكتب العربية والاسلامية في فرنسا: ازدهار الرواية ومعرض بورجيه
هاشم معاوية صاحب مكتبة "ابن سينا" في باريس منذ اواسط الثمانينات من القرن الماضي، وهي المكتبة العربية الاولى المتخصصة بالكتاب العربي في العاصمة الفرنسية. وفي شهادته عن سوق الكتاب العربي في فرنسا وغيرها من البلدان الاوروبية يقدم معاوية لمحة عن الاتجاهات الجديدة في ميول قراء الكتاب العربي والاسلامي في اوروبا السنوات العشرين الاخيرة.
شهادة هاشم معاوية – كتابة محمد ابي سمرا
سنة 1985 كانت "مكتبة ابن سينا" العربية في باريس معروضة للبيع، بعد تعرّضها لأزمة كادت تؤدي الى موتها، فتداعينا مجموعة من الطلاب اللبنانيين لشرائها، واشركنا معنا باحثاً فرنسياً وزوجته. خبرتي في الكتب والمكتبات، لم تكن تتجاوز مشاركتي القديمة في احياء معارض كتب نضالية يسارية في مدينتي بعلبك قبل رحيلي عنها الى فرنسا مطالع الثمانينات. في تلك الايام كنت انقل الكتب بالبوسطة من دور النشر البيروتية الى بعلبك."ابن سينا" اسسها لبنانيون سنة 1980، وكانت المكتبة العربية الاولى في فرنسا. قبلها كانت الكتب العربية والاسلامية تباع في اكشاك الاسواق الشعبية المحلية الاسبوعية المتنقلة التي يقصدها المسلمون الفرنسيون المهاجرون من بلدان المغرب العربي. فسوق ضاحية مونتروي الباريسية، مثلا، كان فيه كشك يبيع حمولة مستوعب ضخم من الكتب الاسلامية في السنة. هذا من دون ان ننسى اجنحة الكتب العربية في مكتبات ارمنية باريسية، مثل ساموريان وأدريان وغوتنر التي يتجاوز عمرها 200 سنة وكانت على صلة بمكتبات ودور نشر عربية في بيروت (مكتبة لبنان) وبغداد (المثنى) والقاهرة (الهلال).
المكتبات العامة والسجون
في البداية كان علينا ان نتعلم ادارة اعمال مكتبتنا بأسلوب فرنسي، كالتزام مواقيت ثابتة ودائمة ومعلنة لفتح المكتبة واقفالها في كل يوم، والتوثيق المتواصل لكل كتاب يدخل اليها ويخرج منها.على خلاف الاعتقاد السائد في لبنان، ليس اللبنانيون العرب المقيمون في باريس، هم زبائن مكتبتنا الاساسيون. فالمثقفون والطلاب والصحافيون اللبنانيون والعرب المقيمون في فرنسا تنقصهم القدرة الشرائية التي تمكّنهم من ابتياع كتبنا بأسعار تزيد بنسبة 40 في المئة عن سعرها في بلدان المنشأ. فشبكة صلات هؤلاء الممتدة ببلدانهم، وخصوصا لبنان، تؤمن لهم ما يحتاجونه من الكتب بسعرها البيروتي. زبائن "ابن سينا" الدائمون والفعليون هم الباحثون والطلاب والمستعربون الفرنسيون والاوروبيون، اضافة الى بعض البورجوازيين اللبنانيين والسياح والعابرين العرب الاماراتيين والسعوديين. لكن الاهم من هذا كله هو المكتبات العامة.في السنوات الاخيرة برزت ظاهرة جديدة لم تكن قائمة من قبل. ابناء الجيل الثاني من الفرنسيين من اصل لبناني، تزايد طلبهم على الكتب العربية للمطالعة والقراءة الشخصية، مدفوعين برغبتهم في التعرف الى ثقافة بلدهم الام، او بلد اهلهم ولغته التي تعلموها في سن غير مبكرة كلغة ثانية. واللافت ان ابناء هذا الجيل الفرنسي اللسان والثقافة، ليس لديه حس التعالي على اللغة والثقافة العربيتين، على عكس الشائع بين طلاب المدارس والجامعات الفرنكوفونية في لبنان، بل هو يقبل على قراءة الكتب العربية شغوفاً بها شغفه بلغة وثقافة انسانيتين غربيتين عنه وغريبتين منه في وقت واحد، كأنما يريد ان يتعرف الى شيء ما هاجع او صامت فيه.من الظواهر الجديدة ايضا في ما يتعلق بالكتاب العربي في فرنسا واوروبا عموما، تزايد طلب المكتبات الجامعية ومراكز الابحاث والمكتبات العامة على الكتاب العربي. فمكتبتنا الباريسية على صلات ثابتة بمكتبات في اميركا واليابان واوستراليا. اما المكتبات العامة البلدية في المدن الفرنسية فصارت تطلب من مكتبتنا ان تزودها دوريا بقائمة الكتب العربية الصادرة حديثا، لكي تختار منها الكثير من العناوين. لكن معظم هذه المكتبات غالبا ما تعتمد على خياراتنا للتزود بالكتب العربية الجديدة، لأن ليس لديها موظفين اخصائيين للقيام باختيار الكتب المناسبة. فاحدى مكتبات مدينة مرسيليا البلدية ارسلنا لها قائمة بـ1200 عنوان من الكتب العربية، وكان الامر مفاجئاً لنا حين طلبت التزود بنسخ من القائمة كلها. ذلك ان المكتبات العامة الفرنسية والاوروبية صارت تعتبر انه من الضروري والملح ان تحتوي جناحا للكتب العربية لتقدمها لقرائها، وخصوصا لأبناء الجاليات العربية والمسلمة الفرنسية. وفي باريس وحدها هناك اكثر من 30 مكتبة عامة وبلدية تتزود بالكتب العربية من مكتبتنا، تاركة لنا في احيان كثيرة اختيار العناوين. وكل من هذه المكتبات لا تخلو قط من نسخ من القرآن الكريم، ومن كتب السيرة النبوية وحياة الصحابة وغيرها من العناوين التراثية والكلاسيكية في الثقافة العربية الاسلامية.ادارة السجون في المدن الفرنسية من زبائن مكتبتنا ايضا، وهذا دليل على تزايد عدد السجناء من اصول عربية واسلامية في فرنسا. واللافت في هذا المجال ان ادارات بعض السجون تختار اصنافا محددة من الكتب العربية، بحسب طلبات السجناء واهوائهم. فهناك السجناء الذين يطلبون كتبا معمقة في مجالات معينة، بينما يطلب آخرون كتبا للمطالعة والتسلية، كبوليسيات اغاتا كريستي، فيما تطلب فئة ثالثة كتبا تراثية اسلامية. وهذا ما تقوم ادارات السجون بمراعاته وتلبيته، بحسب فئات نزلائها واهوائهم.
شبكات التوزيع والرواية
علمتني خبرتي الفرنسية ان الحس التجاري الصرف لا يكفي وحده لنجاح مكتبة واستمرارها. الى جانب هذا الحس يجب توافر عاملين آخرين او ثلاثة: حب الكتب وهوايتها، وحيازة ثقافة عامة، وانشاء علاقات شخصية وعامة مع الزبائن من القارئين والباحثين المستعربين والمترجمين والتواصل معهم في شؤون الكتب. فزائر مكتبة عربية تجارية في باريس، ليس زبونا عابرا مغفلا في الدرجة الاولى، بل هو شخص لديه متطلباته الخاصة. وهو في حاجة الى التواصل مع صاحب المكتبة ومحادثته في شؤون الكتب وشجونها، لأنه غالبا ما يكون من الفرنسيين الراغبين في التعرف على البلدان والثقافة العربية. لذا هو يسألك ماذا قرأت اخيرا، وما هي اهمية هذا الكتاب او ذاك؟ معتمدا على ذوقك ونصيحتك ومعرفتك بالكتب. وهذا يحتم عليك ان تكون لديك فكرة واضحة ووافية وحقيقية عن الكتب، لتقدمها الى الزبائن الذين غالبا ما يعقدون صلة ما مع المكتبة للتزود بما يحتاجون اليه. وهؤلاء من طلاب الدراسات العليا والمستعربين والمترجمين من بلدان اوروبية كاسبانيا وايطاليا والمانيا، اضافة الى الفرنسيين. ذلك ان ليس من مكتبات عربية تجارية في هذه البلدان، سوى واحدة في جنيف. وفي باريس نفسها هناك، الى مكتبة "ابن سينا" مكتبة اخرى نشأت قبل سنوات قليلة، اضافة الى مكتبة معهد العالم العربي التجارية. لذا يمكن القول ان هذه المكتبات التجارية الباريسية الثلاث وحدها، تغطي حاجات البلدان الاوروبية من الكتب العربية، سوى بريطانيا التي تتميز بوجود مكتبة ودار نشر نشيطة هي "الساقي" في لندن.في فرنسا لم تنجح تجارب انشاء دور نشر عربية. فبعض دور النشر الصغيرة التي قامت في باريس نشرت كتبا سعودية ثم توقفت.في السنوات الـ15 الاخيرة ازدهر سوق الرواية العربية الجديدة في اوروبا. بعض الروايات اللبنانية تجاوزت مبيعاتها في مكتبتنا وحدها الألف نسخة. وهناك روايات اخرى وصلت مبيعاتها الى 600 نسخة. وهذه اعداد قد لا تجد ما يعادلها في عواصم عربية كثيرة. والحق ان صاحب المكتبة له دوره الفاعل في ترويج الروايات وغيرها من انواع الكتب التي يروجها وكأنه ناشرها، ليس عن دافع تجاري فقط، بل نتيجة تذوق واختيار شخصيين.فحين اقرأ رواية ما وتعجبني، لا أتوقف عن الكلام عنها مع زبائن المكتبة وزوارها، ناصحا اياهم بقراءتها. ودافعي الى هذا ليس الترويج التجاري وحده، بل شعوري الشخصي بضرورة ان يشاركني الزبائن الكلام عن هذه الرواية او تلك، كي اختبر نفسي في الاختيار والتذوق ومعرفة اهواء القراء وميولهم.اذكر انني كثيرا ما اتصلت من باريس بروائيين لبنانيين في بيروت لأشكرهم لأنني قرأت رواية لأحدهم وامتعتني، وهذا اقل ما يمكن ان يفعله قارىء وصاحب مكتبة مع كاتب امتعته لأيام قراءة كتابه. وانا يهمني ايضا ان انشىء صلات مع الكتاب الذين اقرأ كتبهم وابيعها في مكتبتي، اهتمامي بأن اتواصل مع زبائني في ما يتعلق بالكتب. احيانا قد اشارك استاذا جامعيا في اختيار رواية ما لادراجها في برنامجه السنوي للتدريس في صفه. واحدة من الروايات اللبنانية التي وافقني استاذ جامعي على ادراجها في البرنامج، بعت منها مئة نسخة في اسبوع واحد.
المكتبات الاسلامية
حين بدأت عملي في مكتبة "ابن سينا" في أواسط الثمانينات، لم يكن في باريس سوى ثلاث مكتبات إسلامية أو أربعة. أما اليوم فهناك اكثر من 50 مكتبة إسلامية في العاصمة الفرنسية. والمكتبة الاسلامية التي أقصدها مختلفة تماما في مواصفاتها وأسلوب عملها وزبائنها عن المكتبة العربية. فمكتبات باريس الاسلامية التي أتحدث عنها لا تقتني سوى الكتب الاسلامية التراثية والكلاسيكية والمحدثة حول تعاليم الدين وشؤونه والأرواح والحياة ما بعد الموت. وزبائن هذه الكتب جالية الفرنسيين المسلمين في اوروبا كلها، وخصوصا من الجيل الثاني والثالث من هذه الجالية التي يتجاوز عددها الـ13 مليون نسمة في البلدان الاوروبية. ومكتبات باريس الاسلامية هذه تعتبر الرئيسية والمركزية في اوروبا كلها لنشر هذه الكتب وتوزيعها، عبر شبكات واسعة ومعارض موسمية. اما المصدر الاساسي لهذه الكتب فهو دور النشر الاسلامية في بيروت.لكن المكتبات الاسلامية الباريسية سرعان ما تحولت دور نشر فوضوية، تقوم بترجمة كتب التراث الاسلامي وغيرها ترجمة سوقية سريعة الى اللغة الفرنسية، لنشرها وتوزيعها، استجابة للطلب الواسع على هذه الكتب بين الجاليات الاسلامية في اوروبا. فهذه الجاليات أصابتها في السنوات العشرين الاخيرة وفي أجيالها المختلفة، عدوى الاسلام الجديد الذي لا تجد سبيلا الى ثقافية في غير الكتب. ذلك ان ثقافة الحياة اليومية للبيئات الأوروبية، وكذلك ثقافة الحياة البيتية، لا تزودانها بمتطلبات الاسلام الجديد وثقافته، فتميل الى التعرف اليها من الكتب السوقية التي تنشرها المكتبات الاسلامية المتكاثرة والمتحولة دور للنشر، تقوم بترجمة الكتب التراثية الى الفرنسية واستنساخها على نحو عشوائي وترويجها، تلبية للطلب الكثيف عليها بين الجاليات الاوروبية الاسلامية الراغبة في التعرف الى هويتها في إسلام جديد. واللافت ان ابناء هذه الجاليات لا يجيدون القراءة في العربية، فتقوم المكتبات ودور النشر بترجمة التراث الاسلامي على نحو رديء الى الفرنسية وطباعة كتبه طباعة سيئة لتوزيعها وترويجها.حكايات الأرواح والجن وحساب القبر وحياة ما بعد الموت المترجمة الى الفرنسية شديدة الانتشار والرواج اليوم بين ابناء الجاليات الاوروبية المسلمة، وتُقام لتسويقها معاض موسمية تضاهي معارض الكتب في بيروت والقاهرة. وفي السنوات الاخيرة صرت تلقي أسا تذة جامعات يبحثون عن هذه الكتب للإطلاع عليها ودراستها.مع تزايد قوة هذه الموجة صرت تجد الكثير من الطلاب الملتحين والطالبات المحجبات في قاعات الدراسات العربية الجامعية في فرنسا. هؤلاء معظمهم من أبناء الجيل الثاني والثالث للمهاجرين من بلدان شمال افريقيا الى فرنسا، ويعانون من مشكلات كبرى في فهم النصوص الدينية التراثية في اللغة الفرنسية التي يجيدونها من دون العربية. من هذه المشكلات الفاقعة، مثلا، ان تقرا طالبة جامعية العبارة الشائعة القائلة "ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما"، فترفض أن تجلس الى جانب طالب في قاعة الامتحانات! ولحل هذه المعضلة عمد أحد أكبر معاهد تعليم اللغة العربية في باريس الى طلب توقيع الطالبات على تعهد يدعوهن الى تقبل الآخر، وعدم تحويل تلقي الدرس في المعهد "مهمة نضالية" إسلامية.ومن الظواهر المستجدة في هذا المجال أن مكتبة عربية صغيرة في مدينة ليون الفرنسية طلبت مني تزوديها بقائمة للكتب لتختار منها بعض العناوين، فتلقيت جوابا منها برفض اختيارها روايات نجيب محفوظ لأسباب دينية، فيما طلبت التزود بكميات كبيرة من كتب الأرواح والحياة ما بعد الموت التي أرفض إدخالها الى مكتبتي.
معرض بورجيه السنوي
معرض بورجيه الموسمي للكتب الاسلامية في باريس من أهم المعارض الاسلامية لتداول هذه الكتب وعقد صفقاتها على مستوى اوروبا كلها. فالجاليات الاسلامية في اوروبا تعودت على إحياء مؤتمر سنوي لها في بورجيه، تقام فيه ندوات كثيرة الى جانب المعرض الذي تبلغ كلفة الكشك الواحد للمشاركين فيه نحو مئة ألف فرنك. وهذا المبلغ الكبير يدل على أرقام المبيعات والارباح المرتفعة في هذا المعرض.إنه مهرجان إسلامي موسمي ضخم يؤمه أصحاب المكتبات الاسلامية والناشرون من انحاء اوروبا كافة، للبيع والتسويق وعقد الصفقات. اما جمهور المعرض الواسع فيأتي في الباصات من أنحاء فرنسا والمانيا وسويسرا وهولندا وبلجيكا، ليس طلباً للتزود بالكتب فحسب، بل للقاء والتعارف والتبادل، كما في مناسبة اسلامية عامة وجامعة، تشبه مواسم الأعياد وغيرها من الشعائر. وقد يشبه هذا المعرض – العيد، عيد الإيمانيتيه اليساري والشيوعي الفرنسي الذي كان يقام قبل 20 سنة في باريس. ففي معرض بورجيه غالباً ما يلتقي "المناضلون" الاسلاميون الجدد الوافدون اليه من بلدان اوروبية مجاورة لفرنسا، فيتزودون الكتب الجديدة ويعقدون الندوات واللقاءات ويتبادلون الآراء والتجارب، حيث تجد كتباً في تفسير القرآن بحسب أهواء وغايات عشوائية في اللغة الفرنسية.
سنة 1985 كانت "مكتبة ابن سينا" العربية في باريس معروضة للبيع، بعد تعرّضها لأزمة كادت تؤدي الى موتها، فتداعينا مجموعة من الطلاب اللبنانيين لشرائها، واشركنا معنا باحثاً فرنسياً وزوجته. خبرتي في الكتب والمكتبات، لم تكن تتجاوز مشاركتي القديمة في احياء معارض كتب نضالية يسارية في مدينتي بعلبك قبل رحيلي عنها الى فرنسا مطالع الثمانينات. في تلك الايام كنت انقل الكتب بالبوسطة من دور النشر البيروتية الى بعلبك."ابن سينا" اسسها لبنانيون سنة 1980، وكانت المكتبة العربية الاولى في فرنسا. قبلها كانت الكتب العربية والاسلامية تباع في اكشاك الاسواق الشعبية المحلية الاسبوعية المتنقلة التي يقصدها المسلمون الفرنسيون المهاجرون من بلدان المغرب العربي. فسوق ضاحية مونتروي الباريسية، مثلا، كان فيه كشك يبيع حمولة مستوعب ضخم من الكتب الاسلامية في السنة. هذا من دون ان ننسى اجنحة الكتب العربية في مكتبات ارمنية باريسية، مثل ساموريان وأدريان وغوتنر التي يتجاوز عمرها 200 سنة وكانت على صلة بمكتبات ودور نشر عربية في بيروت (مكتبة لبنان) وبغداد (المثنى) والقاهرة (الهلال).
المكتبات العامة والسجون
في البداية كان علينا ان نتعلم ادارة اعمال مكتبتنا بأسلوب فرنسي، كالتزام مواقيت ثابتة ودائمة ومعلنة لفتح المكتبة واقفالها في كل يوم، والتوثيق المتواصل لكل كتاب يدخل اليها ويخرج منها.على خلاف الاعتقاد السائد في لبنان، ليس اللبنانيون العرب المقيمون في باريس، هم زبائن مكتبتنا الاساسيون. فالمثقفون والطلاب والصحافيون اللبنانيون والعرب المقيمون في فرنسا تنقصهم القدرة الشرائية التي تمكّنهم من ابتياع كتبنا بأسعار تزيد بنسبة 40 في المئة عن سعرها في بلدان المنشأ. فشبكة صلات هؤلاء الممتدة ببلدانهم، وخصوصا لبنان، تؤمن لهم ما يحتاجونه من الكتب بسعرها البيروتي. زبائن "ابن سينا" الدائمون والفعليون هم الباحثون والطلاب والمستعربون الفرنسيون والاوروبيون، اضافة الى بعض البورجوازيين اللبنانيين والسياح والعابرين العرب الاماراتيين والسعوديين. لكن الاهم من هذا كله هو المكتبات العامة.في السنوات الاخيرة برزت ظاهرة جديدة لم تكن قائمة من قبل. ابناء الجيل الثاني من الفرنسيين من اصل لبناني، تزايد طلبهم على الكتب العربية للمطالعة والقراءة الشخصية، مدفوعين برغبتهم في التعرف الى ثقافة بلدهم الام، او بلد اهلهم ولغته التي تعلموها في سن غير مبكرة كلغة ثانية. واللافت ان ابناء هذا الجيل الفرنسي اللسان والثقافة، ليس لديه حس التعالي على اللغة والثقافة العربيتين، على عكس الشائع بين طلاب المدارس والجامعات الفرنكوفونية في لبنان، بل هو يقبل على قراءة الكتب العربية شغوفاً بها شغفه بلغة وثقافة انسانيتين غربيتين عنه وغريبتين منه في وقت واحد، كأنما يريد ان يتعرف الى شيء ما هاجع او صامت فيه.من الظواهر الجديدة ايضا في ما يتعلق بالكتاب العربي في فرنسا واوروبا عموما، تزايد طلب المكتبات الجامعية ومراكز الابحاث والمكتبات العامة على الكتاب العربي. فمكتبتنا الباريسية على صلات ثابتة بمكتبات في اميركا واليابان واوستراليا. اما المكتبات العامة البلدية في المدن الفرنسية فصارت تطلب من مكتبتنا ان تزودها دوريا بقائمة الكتب العربية الصادرة حديثا، لكي تختار منها الكثير من العناوين. لكن معظم هذه المكتبات غالبا ما تعتمد على خياراتنا للتزود بالكتب العربية الجديدة، لأن ليس لديها موظفين اخصائيين للقيام باختيار الكتب المناسبة. فاحدى مكتبات مدينة مرسيليا البلدية ارسلنا لها قائمة بـ1200 عنوان من الكتب العربية، وكان الامر مفاجئاً لنا حين طلبت التزود بنسخ من القائمة كلها. ذلك ان المكتبات العامة الفرنسية والاوروبية صارت تعتبر انه من الضروري والملح ان تحتوي جناحا للكتب العربية لتقدمها لقرائها، وخصوصا لأبناء الجاليات العربية والمسلمة الفرنسية. وفي باريس وحدها هناك اكثر من 30 مكتبة عامة وبلدية تتزود بالكتب العربية من مكتبتنا، تاركة لنا في احيان كثيرة اختيار العناوين. وكل من هذه المكتبات لا تخلو قط من نسخ من القرآن الكريم، ومن كتب السيرة النبوية وحياة الصحابة وغيرها من العناوين التراثية والكلاسيكية في الثقافة العربية الاسلامية.ادارة السجون في المدن الفرنسية من زبائن مكتبتنا ايضا، وهذا دليل على تزايد عدد السجناء من اصول عربية واسلامية في فرنسا. واللافت في هذا المجال ان ادارات بعض السجون تختار اصنافا محددة من الكتب العربية، بحسب طلبات السجناء واهوائهم. فهناك السجناء الذين يطلبون كتبا معمقة في مجالات معينة، بينما يطلب آخرون كتبا للمطالعة والتسلية، كبوليسيات اغاتا كريستي، فيما تطلب فئة ثالثة كتبا تراثية اسلامية. وهذا ما تقوم ادارات السجون بمراعاته وتلبيته، بحسب فئات نزلائها واهوائهم.
شبكات التوزيع والرواية
علمتني خبرتي الفرنسية ان الحس التجاري الصرف لا يكفي وحده لنجاح مكتبة واستمرارها. الى جانب هذا الحس يجب توافر عاملين آخرين او ثلاثة: حب الكتب وهوايتها، وحيازة ثقافة عامة، وانشاء علاقات شخصية وعامة مع الزبائن من القارئين والباحثين المستعربين والمترجمين والتواصل معهم في شؤون الكتب. فزائر مكتبة عربية تجارية في باريس، ليس زبونا عابرا مغفلا في الدرجة الاولى، بل هو شخص لديه متطلباته الخاصة. وهو في حاجة الى التواصل مع صاحب المكتبة ومحادثته في شؤون الكتب وشجونها، لأنه غالبا ما يكون من الفرنسيين الراغبين في التعرف على البلدان والثقافة العربية. لذا هو يسألك ماذا قرأت اخيرا، وما هي اهمية هذا الكتاب او ذاك؟ معتمدا على ذوقك ونصيحتك ومعرفتك بالكتب. وهذا يحتم عليك ان تكون لديك فكرة واضحة ووافية وحقيقية عن الكتب، لتقدمها الى الزبائن الذين غالبا ما يعقدون صلة ما مع المكتبة للتزود بما يحتاجون اليه. وهؤلاء من طلاب الدراسات العليا والمستعربين والمترجمين من بلدان اوروبية كاسبانيا وايطاليا والمانيا، اضافة الى الفرنسيين. ذلك ان ليس من مكتبات عربية تجارية في هذه البلدان، سوى واحدة في جنيف. وفي باريس نفسها هناك، الى مكتبة "ابن سينا" مكتبة اخرى نشأت قبل سنوات قليلة، اضافة الى مكتبة معهد العالم العربي التجارية. لذا يمكن القول ان هذه المكتبات التجارية الباريسية الثلاث وحدها، تغطي حاجات البلدان الاوروبية من الكتب العربية، سوى بريطانيا التي تتميز بوجود مكتبة ودار نشر نشيطة هي "الساقي" في لندن.في فرنسا لم تنجح تجارب انشاء دور نشر عربية. فبعض دور النشر الصغيرة التي قامت في باريس نشرت كتبا سعودية ثم توقفت.في السنوات الـ15 الاخيرة ازدهر سوق الرواية العربية الجديدة في اوروبا. بعض الروايات اللبنانية تجاوزت مبيعاتها في مكتبتنا وحدها الألف نسخة. وهناك روايات اخرى وصلت مبيعاتها الى 600 نسخة. وهذه اعداد قد لا تجد ما يعادلها في عواصم عربية كثيرة. والحق ان صاحب المكتبة له دوره الفاعل في ترويج الروايات وغيرها من انواع الكتب التي يروجها وكأنه ناشرها، ليس عن دافع تجاري فقط، بل نتيجة تذوق واختيار شخصيين.فحين اقرأ رواية ما وتعجبني، لا أتوقف عن الكلام عنها مع زبائن المكتبة وزوارها، ناصحا اياهم بقراءتها. ودافعي الى هذا ليس الترويج التجاري وحده، بل شعوري الشخصي بضرورة ان يشاركني الزبائن الكلام عن هذه الرواية او تلك، كي اختبر نفسي في الاختيار والتذوق ومعرفة اهواء القراء وميولهم.اذكر انني كثيرا ما اتصلت من باريس بروائيين لبنانيين في بيروت لأشكرهم لأنني قرأت رواية لأحدهم وامتعتني، وهذا اقل ما يمكن ان يفعله قارىء وصاحب مكتبة مع كاتب امتعته لأيام قراءة كتابه. وانا يهمني ايضا ان انشىء صلات مع الكتاب الذين اقرأ كتبهم وابيعها في مكتبتي، اهتمامي بأن اتواصل مع زبائني في ما يتعلق بالكتب. احيانا قد اشارك استاذا جامعيا في اختيار رواية ما لادراجها في برنامجه السنوي للتدريس في صفه. واحدة من الروايات اللبنانية التي وافقني استاذ جامعي على ادراجها في البرنامج، بعت منها مئة نسخة في اسبوع واحد.
المكتبات الاسلامية
حين بدأت عملي في مكتبة "ابن سينا" في أواسط الثمانينات، لم يكن في باريس سوى ثلاث مكتبات إسلامية أو أربعة. أما اليوم فهناك اكثر من 50 مكتبة إسلامية في العاصمة الفرنسية. والمكتبة الاسلامية التي أقصدها مختلفة تماما في مواصفاتها وأسلوب عملها وزبائنها عن المكتبة العربية. فمكتبات باريس الاسلامية التي أتحدث عنها لا تقتني سوى الكتب الاسلامية التراثية والكلاسيكية والمحدثة حول تعاليم الدين وشؤونه والأرواح والحياة ما بعد الموت. وزبائن هذه الكتب جالية الفرنسيين المسلمين في اوروبا كلها، وخصوصا من الجيل الثاني والثالث من هذه الجالية التي يتجاوز عددها الـ13 مليون نسمة في البلدان الاوروبية. ومكتبات باريس الاسلامية هذه تعتبر الرئيسية والمركزية في اوروبا كلها لنشر هذه الكتب وتوزيعها، عبر شبكات واسعة ومعارض موسمية. اما المصدر الاساسي لهذه الكتب فهو دور النشر الاسلامية في بيروت.لكن المكتبات الاسلامية الباريسية سرعان ما تحولت دور نشر فوضوية، تقوم بترجمة كتب التراث الاسلامي وغيرها ترجمة سوقية سريعة الى اللغة الفرنسية، لنشرها وتوزيعها، استجابة للطلب الواسع على هذه الكتب بين الجاليات الاسلامية في اوروبا. فهذه الجاليات أصابتها في السنوات العشرين الاخيرة وفي أجيالها المختلفة، عدوى الاسلام الجديد الذي لا تجد سبيلا الى ثقافية في غير الكتب. ذلك ان ثقافة الحياة اليومية للبيئات الأوروبية، وكذلك ثقافة الحياة البيتية، لا تزودانها بمتطلبات الاسلام الجديد وثقافته، فتميل الى التعرف اليها من الكتب السوقية التي تنشرها المكتبات الاسلامية المتكاثرة والمتحولة دور للنشر، تقوم بترجمة الكتب التراثية الى الفرنسية واستنساخها على نحو عشوائي وترويجها، تلبية للطلب الكثيف عليها بين الجاليات الاوروبية الاسلامية الراغبة في التعرف الى هويتها في إسلام جديد. واللافت ان ابناء هذه الجاليات لا يجيدون القراءة في العربية، فتقوم المكتبات ودور النشر بترجمة التراث الاسلامي على نحو رديء الى الفرنسية وطباعة كتبه طباعة سيئة لتوزيعها وترويجها.حكايات الأرواح والجن وحساب القبر وحياة ما بعد الموت المترجمة الى الفرنسية شديدة الانتشار والرواج اليوم بين ابناء الجاليات الاوروبية المسلمة، وتُقام لتسويقها معاض موسمية تضاهي معارض الكتب في بيروت والقاهرة. وفي السنوات الاخيرة صرت تلقي أسا تذة جامعات يبحثون عن هذه الكتب للإطلاع عليها ودراستها.مع تزايد قوة هذه الموجة صرت تجد الكثير من الطلاب الملتحين والطالبات المحجبات في قاعات الدراسات العربية الجامعية في فرنسا. هؤلاء معظمهم من أبناء الجيل الثاني والثالث للمهاجرين من بلدان شمال افريقيا الى فرنسا، ويعانون من مشكلات كبرى في فهم النصوص الدينية التراثية في اللغة الفرنسية التي يجيدونها من دون العربية. من هذه المشكلات الفاقعة، مثلا، ان تقرا طالبة جامعية العبارة الشائعة القائلة "ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما"، فترفض أن تجلس الى جانب طالب في قاعة الامتحانات! ولحل هذه المعضلة عمد أحد أكبر معاهد تعليم اللغة العربية في باريس الى طلب توقيع الطالبات على تعهد يدعوهن الى تقبل الآخر، وعدم تحويل تلقي الدرس في المعهد "مهمة نضالية" إسلامية.ومن الظواهر المستجدة في هذا المجال أن مكتبة عربية صغيرة في مدينة ليون الفرنسية طلبت مني تزوديها بقائمة للكتب لتختار منها بعض العناوين، فتلقيت جوابا منها برفض اختيارها روايات نجيب محفوظ لأسباب دينية، فيما طلبت التزود بكميات كبيرة من كتب الأرواح والحياة ما بعد الموت التي أرفض إدخالها الى مكتبتي.
معرض بورجيه السنوي
معرض بورجيه الموسمي للكتب الاسلامية في باريس من أهم المعارض الاسلامية لتداول هذه الكتب وعقد صفقاتها على مستوى اوروبا كلها. فالجاليات الاسلامية في اوروبا تعودت على إحياء مؤتمر سنوي لها في بورجيه، تقام فيه ندوات كثيرة الى جانب المعرض الذي تبلغ كلفة الكشك الواحد للمشاركين فيه نحو مئة ألف فرنك. وهذا المبلغ الكبير يدل على أرقام المبيعات والارباح المرتفعة في هذا المعرض.إنه مهرجان إسلامي موسمي ضخم يؤمه أصحاب المكتبات الاسلامية والناشرون من انحاء اوروبا كافة، للبيع والتسويق وعقد الصفقات. اما جمهور المعرض الواسع فيأتي في الباصات من أنحاء فرنسا والمانيا وسويسرا وهولندا وبلجيكا، ليس طلباً للتزود بالكتب فحسب، بل للقاء والتعارف والتبادل، كما في مناسبة اسلامية عامة وجامعة، تشبه مواسم الأعياد وغيرها من الشعائر. وقد يشبه هذا المعرض – العيد، عيد الإيمانيتيه اليساري والشيوعي الفرنسي الذي كان يقام قبل 20 سنة في باريس. ففي معرض بورجيه غالباً ما يلتقي "المناضلون" الاسلاميون الجدد الوافدون اليه من بلدان اوروبية مجاورة لفرنسا، فيتزودون الكتب الجديدة ويعقدون الندوات واللقاءات ويتبادلون الآراء والتجارب، حيث تجد كتباً في تفسير القرآن بحسب أهواء وغايات عشوائية في اللغة الفرنسية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire