vendredi 29 juin 2007

لحظة رامبو وإضافته





لحظـة رامبـو وإضافتـه


كاظم جهاد


يشكّل عمل رامبو الشعريّ، في قصائده الموزونة كما في قصائد النّثر، وحدة متصاعدة ومتكاملة. ثمّة إحالات دائمة تمارسها القصائد والأبيات والرّموز بعضها إلى البعض الآخر، فيضيء بعضها البعض أو ينقضه أو يساهم في تطويره. وكما سيرى القارئ، فإنّ هذه الإحالات المتبادلة تمدّ الشّراح بعون كبير لفهم مقاصد رامبو في مواضع متفرّقة من عمله. وتعمل الإحالات الرّامبوية والإضاءات المتبادلة طرداً وعسكاً: فيمكن أن يعود في فترة لاحقة بعيدة نسبيّاً في الزّمن إلى هاجس قديم أو صورة قديمة ويضيف إليهما لمسة جديدة، تمارس عليهما إثراءً أو تحويلاً. كما يمكن أن يطمئنّ لكونه أنضجَ بما فيه الكفاية رمزاً ما أو دلالةً ما فيكتفي في مناسبة تالية بذكرهما أو تسميتهما. من هنا تفرض نفسها ضرورة القراءة الآفاقيّة التي تشغّل الذّاكرة إلى أبعد حدّ وتقرأ العمل ككلّ متماسك. وبهذا الالتمام للعمل على نفسه توفّر آثار رامبو صورة «حاسوب» ثريّ تتفجّر لمسة واحدة على أحد نوابضه عن إمكانات متعدّدة وتضافرات عميقة، أشبه ما تكون بـ«النّقرة على الطّبل» التي «تغيّر الحظوظ» في قصيدته «إلى عقل» («إشراقات»). هو «حاسوب» من نوع هذا الذي يرى الفيلسوف جاك درّيدا أنّ عمل الآيرلنديّ جيمس جويس James Joyce يتوفّر عليه. هذه الطّبيعة المتكافلة لجميع أجزاء العمل سمحت لقرّاء رامبو، من شرّاح ونقّاد وفلاسفة، بتسمية حركيّات شكليّة أو مضمونيّة وشبكات معنويّة وإيقونيّة تخترق الأثر كلّه ويُتيح «تعقُّبها» القبض على بعض أهمّ حوافز رامبو وعناصر رؤيته الواعية وغير الواعية لنفسه. من هذه الشّبكات التّصويريّة أو الدّلالات الكبرى، صورة «العامل» ouvrier التي فرضها رامبو على الشّعر، وما كانت المفردة نفسها لتُعتبَر قبله شعريّة ولا أحد يغامر بإدخالها في قصيدة. في «العامل» رأى رامبو شبيهه الحقيقيّ، مهما كان من إعلاناته المتوالية عن محبّته للكسل، وفي «الشّغيلة» لمحَ صفوف «العبيد الجدد» وطعام مَدافع الحروب الحديثة. جعلَ منهم في «الحدّاد» أبطال الحدث التّاريخيّ، وأعلن في «شعراء السّابعة» عن توقيره لهم إذ يعودون في ثياب العمل إلى القرية، وفضّل مشهد عودتهم هذا على المَشاهد الدّينيّة. وفي قصيدته «باريس تُأهَل من جديد»، رأى في عمّال «سيفْر» و«مودون» وسواهما أحد أجمل وجوه باريس المنتفضة، وفي «فكرة طيّبة للصّباح» يتوسّل فينوس أن تغادر العشّاق قليلاً لتعنى بالعمّال وتأتيَهم بـ«ماء الحياة». هناك أيضاً صورة هذا «المارد» ذي الطّبيعة الشّديدة الخصوصيّة، الذي يخلع عليه رامبو صفات «الجنّي» génie محوّلاً إيّاها إلى سِمات إنسانيّة، بما يمنع من ترجمة الكلمة إلى «جنّي»، ويدفعنا إلى ترجمتها إلى «عبقري». هذا الكائن الذي يُصوّره رامبو حائزاً على قدرات خارقة هو عارِف ذو سلطان تحويليّ، ومخلِّص بلا هالة دينيّة ولا خرافة. يجسّد في ذاته الفتنة الخارقة والعِلم الواسع والحنان المديد، ويأتي بصيرورة حبّ وعافية، ويعمل بكونيّة تتجاوز حدود الإنسانيّ، ويسعى لتحقيق نهاية الأوهام والتّطيّرات، ويجترح «الجسد الشّائق» و«التّناغم الجديد». المرأة هناك أيضاً المرأة، التي ربّما كان رامبو هو الشّاعر الذي ترك عنها الصّورة الأكثر تعقيداً وتلوّناً وعمقاً، آخِذاً إيّاها في وجوهها المتعدّدة، وجه الأمّ القاسية («شعراء السّابعة»)، والأمّ المهجورة من لدن بعلها والتي يُعيرها الشّاعر كآبة النّهر بُعيدَ غياب الشّمس («ذاكرة»)، وابنة الجيران الصّبيّة اللاّعبة («شعراء السّابعة»)، و«الفتاة الآسرة الحركات» («رواية»)، والنّادلة المرِحة الطّامعة بقُبلة («الماكرة»)، وصاحبة اللّمسات الحَنون المُنعشة للكيان («المفلّيتان») والمعشوقة الهاربة («ردود نينا القاطعات»)، وأخت الرّوح البعيدة المنال (القصيدة نفسها و«الأخوات المُحسنات»)، ومناضِلة «الكومونة» وعاملة العصر الحديث («يَدا جان ـ ماري» و«باريس تُأهَل من جديد»)، والفتاة المُتَرهبِنة المُصادَرة منها رغبتها («المَناوَلات الأولى»)، و«العذراء الحمقاء» التي يدفعها غموض «البعل الجهنّمي» وشرطها التّاريخيّ نفسه إلى الهذيان والمازوخيّة والجنون («فصل في الجحيم»)، ورفيقة النّزهات السّوداويّة («عمّال» وسواها في «إشراقات»)، والمليكة المتوَّجة نهاراً بأكمله هو ولا شكّ نهار تحقيق للرّغبة ولـ«إشباعها الجوهري» («ملوكيّة»، «إشراقات»)، و«مصّاصة الدّماء» التي تمارس فعلَ غواية وإخصاء («حالة ضِيق»، «إشراقات»)، وهيلانة الغامضة التي تفرض سِحرها بعدَ المرور باختبار «التّأثيرات الباردة» («عالَم شائق»، «إشراقات»). ذهبَ رامبو في استكناه وجوه المرأة أو وجودها أبعدَ ممّا فعلَ بودلير الذي كانت الرّغبة مسكونة لديه بالإثم، في حين عملَ رامبو على إلغاء الإثم وإزالة الشّعور بالخطيئة الأصليّة. أحبّ في المرأة سيولتها، طبيعتها النّسغيّة، وصوّرَ إلهات العالم القديم سابحاتٍ في بيئتهنّ الغابيّة ـ المائيّة، ورأى في طمث المرأة علامة خصوبة أعارها للأرض التي نظر إليها هي أيضاً كجسد امرأة («الشّمس والجسد»). كما قلبَ منظور الثّنائيّ العشقيّ أو مثنويّ الذّكر والأنثى، وبدلَ النّظرة القديمة أو الشّائعة التي ترى في المرأة حاملة للرّجل، صّورَ هو الرّجل حاملاً لهواها ومتكبّداً إيّاه كمأساة أو عذاب حقيقيّ («الأخوات المُحسِنات»). في القصيدة نفسها يصّور المرأة «عمياء غير مستيقظة ببؤبؤين مَديدَين» ويُذكّر بـ«الفظاظات المتكبَّدة (من لدنها) بالأمس» (مهانة شرطها التّاريخيّ). ثمّ إذْ ينعتها، في النصّ نفسه، بـ«كدْسة أحشاء»، فلا لكي يقدّم صورة حاطّة عن جسد المرأة، بل بالعكس ليُشير إلى معطوبيّته وانجراحه وهشاشته. النجاسة بين شبكات الصّوَر العميقة الدّلالة يشير ألان باديو في دراسته المذكورة إلى تلميح رامبو إلى «الذّبابةِ الثّملةِ في مبْوَلةِ النُّزلِ، عاشقةِ زهرِ لسانِ الثّورِ، التي يُذيبها شعاع» («خيمياء الكلمة»، «فصل في الجحيم»)، وإلى تشبيه رامبو للحرف الأوّل من الأبجديّة اللاّتينيّة (A) بـ«البطن الأسوَد لذُباباتٍ ألِقة / تطنُّ حولِ نتاناتٍ فظيعة» («حروف العلّة»). هناك أيضاً «المئة ذبابة قذرة» التي تبعث حوله، هو العطشان الجائع، «طنينها الصّارخ» في «أغنية البُرج الأعلى». كما يتذكّر رامبو في كنائس «المُناوَلات الأولى»: «ذباباً تفوحُ منهُ رائحةُ الاصطبلاتِ والنّزْل / يظلّ يلتهم شمعَ الأرضيّة المُشمَّسة». وفي «شعراء السّابعة» يصوّر الصبيّ رفاقه («أُلاّفه الوحيدين») كما يأتي: «بؤساءُ هُم، عاريةٌ جباههم، أعيُنُهم منْسفِحةٌ على الخدَّين / ويُخفونَ أصابعَهم النّاحلةَ المُصْفَرّةَ أو المُسْوَدَّةَ من أثر الوحْل / تحتَ ثيابٍ باليةٍ تنبعث منها رائحةُ غائط». وقريب من هذا موقف الصّبيّ المتحدَّث عنه في القصيدة ذاتها (رامبو نفسه)، الذي يعتصم في «نداوة بيت الرّاحة»، حيث يروح «يُفكّرُ، بِدِعَةٍ، مُرهِفاً منخرَيه». بيت يتّخذ كاملَ دلالته إذا ما نحن تذكّرنا أنّ هذه واحدة من وسائل الصّبيّ في الهرب من حصار المنزل العائليّ وصرامة الأمّ. والنّبرة الوجوديّة نفسها نجدها في تصوير مخاوف الفتاة المُترهبِنة عشيّة تخرُّجها في دروس التّعليم الدّينيّ في «المُناوَلات الأولى»: ففي اللّيلة الحاسمة تلك، التي يتجلّى فيها يسوع لخيالها الحالِم المؤرَّق، تكتنفها اضطرابات وحمّى عالية وتكون «أمضتْ ليلتها المقدَّسة في بيتِ راحة». هذه المعالجات ينبغي عدم الاستهانة بها ولا عزْوها إلى رغبة بسيطة من لدن الشّاعر في اجتذاب القصيدة إلى مجال المدنَّس، رغبة قد تكون مدفوعة بإرادة تحطيم مهابة القصيدة الكلاسيكيّة والرقّة المفرطة التي تميّز الشّعر الرّومنطيقيّ. في كتابات بعض المتصوّفة ورهابنة الصّحراء نجد أيضاً هذا الانهمام بامتحان الجسد وبموضوعات القذارة والتلوّث. إنّ رامبو يدشّن هنا، كما يُذكّر به باديو، معالجة أدبيّة ستنتشر بصورة باذخة في كتابات صامويل بيكيتSamuel Beckett وجان جينيه Jean Genet وآخرين من كتّاب القرن العشرين. بارتداده إلى عفنه أو عفن العالَم، واختراقه عوالم النّجاسة، وبإبرامه ما يدعوه رانسيَير «التّحالف مع البلاهة»، بلاهة «الرّفيقة المتسوّلة» و«الطّفلة المسْخ» في «عِبارات» («إشراقات»)، وبلاهة رفاقه الصِّبْية «المنسفحة عيونهم على الخدَّين» في «شعراء السّابعة»، يجرّب الكائن الرّامبويّ إمكان تساميه ويصبو إلى شيء من القداسة. إنّه يُقيم فردوسه العائمة على الأنقاض، أو، بتعبير باديو، «جنّة عدْنٍ من نجاسة وماء أسوَد، من الوحل والبول». وحْل يقول هو نفسه في «ذاكرة» إنّه عالق فيه، عاجز عن الاختيار وتحديد مَساره: «قاربي واقفٌ أبداً بسلسلتهِ المجذوبة / في قلبِ هذه العينِ من ماءٍ بلا ضفافٍ ـ في أيِّ وحل؟». كما توقفنا عبارة من «خيمياء الكلمة» («فصل في الجحيم») على هذه العلاقة الحميمة التي يراها باديو بين الرّغبة السّوداء أو الواقع الأسوَد ونور الكينونة: «كنتُ أتجرجرُ في الأزقّةِ العطِنةِ، ومغمضَ العينينَ أهَبُني للشّمسِ، إلهة النّار». هذا كلّه يقودنا إلى الحركيّات المُفارِقة، حركيّات العُدول المفاجئ واللاّقرار ونفاد الصّبر أو اللّهفة المطلقة والانقطاع والبتر التي يجد فيها باديو ما يشبه «سر» رامبو وأساس امتحانه الكيانيّ والشّعريّ. يشقّ «المركب السّكران» خضمّ البحر الهائج ويحقّق رؤى عجيبة ثمّ، بلا سابق تمهيد، ينكفئ ويشعر بالحنين إلى مشهد بدئيّ بالغ الفقر، مشهد البرْكة والمركب الورقيّ الذي يدفعه على سطحها طفلٌ محزون. وفي «ما تعني لنا يا قلبي؟»، يتكلّم على «دوّاماتِ النّار الغَضوب» و«سيول النّيران» «ومسيرة منتقمة تحتلّ كلَّ شيء»، وعن «براكين تندلع وأوقيانوس يُدَك»، وعن «سود مجهولين» يدعوهم هو إلى «المضي». ثمّ، فجأةً أيضاً، نرى إليه وهو يُعلن: «يا للشّقاءِ! أُحسّ بي مرتجفاً، الأرضُ العتيقة/ (تنطبقُ) عليَّ رويداً رويداً! الأرضُ تذوب»، قبل أن يستعيد صحوه ويقرّر: «وما هذا بذي بالٍ. إنّني هنا. دائماً هنا». في «ذاكرة» أيضاً، يشبّه جريان النّهر بـ«رفيف الملائكة» ثم يُصحّح: «بل هو تيّار الذّهب في مسير»، مُحبِطاً على هذه الشّاكلة إمكان المرجعيّة العُلويّة بمُحايَثة ماديّة. في «فصل في الجحيم»، هذا العمل «المعدول» دون انقطاع، تتلاحق «سينات» المستقبل: «بأعضاءٍ فولاذيّةٍ وبَشرةٍ داكنةٍ وعينٍ غضبى سأعود: من قناعي سيَعدّونني من عرْقٍ قويّ. سأحوز ذهباً: سأكون عاطلاً وفظّاً. (...) سأتدخّل في شؤون السّياسة. سَأنالُ خلاصي»، ثمّ يفاجئنا في سطور أبعدَ بالقول: «لن نُغادر. لِنَسْتَعِدِ الطُّرُقَ التي هيَ هنا، رازحاً تحتَ رذيلتي، هذه الرّذيلة التي مَدّتْ، منذُ سنّ الرّشدِ، جذورَ عذابِها إلى جانبي». وكثيرة هي نصوص «إشراقات» التي نرى فيها إلى صاحب «خيميائيّ الكلمة» وهو يشرع بابتكار «جسدٍ شائق» أو «تناغمٍ جديد»، ثمّ ينكفئ في مجرى محاولته ويُعلن عن انتهاء المشروع («كائن جميل»، «أزهار»، «بربري»، إلخ.). نثر العالم هذه النّزعة اللاّ ـ قراريّة، هذه الـ«لا» غير الجدليّة، بتعبير باديو، التي تأتي لتُلغي وهمَ إمكانِ قولِ العالَم بكامل شفافيّته، والتي ترينا «نثر العالم» وهو يهدّد الحضور ويجعل الحضورات حبلى أبداً بالغيابات الأكثر صعقاً وإفجاعاً، هذه النّزعة ترتبط بالزّوج المتعارض، زوج الصّبر ونفاده لدى رامبو. فهذا الذي وضعَ أربع قصائد تحت العنوان الشّامل والبعيد الدّلالة: «أعياد الصّبر»، نراه يجمع في أُولاها بين «الصّبر» و«السّأم» («أعلام نوّار»)، ويصرّح في الثّانية: «ذقتُ من الصّبر / ما لنْ أنسى» («أغنية البُرج الأعلى»)، ويقرّر في الثّالثة: «أنْ نعلمَ ونصطبرَ / لهوَ عذابٌ أكيد» («الأبديّة»). ذلك أنّ العِلم بالشّيء أو معرفته ينبغي في نظره أن يتحوّل على الفور إلى قدرة إنجازيّة وإلى سلطانِ تحويل. ومع أنّه يكتب في نهاية «فصل في الجحيم»: «مسلّحينَ بصبرٍ لاهبٍ، سنلجُ المدنَ الرّائعة» («وداع»)، فهو لا ينفكّ يعرب عن نفاد صبره أمام العِلم الذي يجد هو أنّه «لا يسير بالسّرعة التي تناسبنا» («المستحيل»، «فصل في الجحيم»). ثمّ إنّ النّعت «لاهب» نفسه يبدو لنا متعارضاً مع «الصّبر». وفي الحقيقة، فإنّنا نجد مفردتَي «السّرعة» و«الوثب» وما ينخرط في حقليهما الدّلاليَّين بين المفردات الأكثر تواتراً في عمل رامبو. هوذا يكتب في «فصل في الجحيم»: «جريمةً بسرعة، لأسقط في العدم، بجريرةِ ناموس البشر»؛ «بسرعةٍ! هل من حيَواتٍ أُخرى؟»؛ «آه! أسرَعَ، أسرَعَ قليلاً؛ هناكَ، أبعدَ من اللّيل»؛ «لو صارَ (فكري) منذُ هذه اللّحظةِ دائمَ اليقظةِ، فسرعانَ ما سنُدركَ الحقيقة»، و«على الفورِ املأْ مقاصيرَ السّيداتِ برَملِ اليواقيتِ الحارق»؛ وفي «عبقري» («إشراقات»): «يا لَسرعتهِ المُرعبةِ في إكمالِ الصَّورِ والأفعال». أمّا عن «الوثبة» فنقرأ، في «فصل في الجحيم» أيضاً: «إنّني أهدي أيّة صورةٍ سماويّةٍ وثباتٍ نحوَ الكمال»؛ «الوثبة الصّامتة للحيَوانِ المفترس»؛ «السُّعاراتُ والجنونُ وألوانُ الفجورِ، هذه التي أعرفُ جميعَ وثباتِها»؛ وفي «إشراقات»: «جميعُ الأساطيرِ تَجُولُ، والوثباتُ تتزاحمُ في البَلْدات» («مدن -II)؛ «تطبيقاتُ الحِسابِ ووثباتُ التّناغُمِ الذي لم يُسمَع بمِثلهِ من قبل» («بَيع تصفية»)؛ «اليقظةُ المتآخيةُ لجميعِ الطّاقاتِ الإنشاديّةِ والأوركستراليّةِ وتطبيقاتِها الفوريّة»، (النصّ نفسه)؛ يا لَوثبة مَلَكاتنا («عبقري»)؛ «نقرةٌ من إصبعكَ على الطّبلِ تُحرّرُ جميعَ الأصواتِ ويبدأُ التّناغمُ الجديد / خطوةٌ منكَ وينهضُ الرّجالُ الجُددُ ويشرعونَ بالسّير» («إلى عقل»)؛ «لا نقدرُ أنْ نقبضَ على هذه الأبديّةِ على الفور» («صبيحة سكْر»)؛ «بقفزة واحدة نأتي إلى الخشبة» («رسالة الرّائي الثّانية»). هذه الوعود بتحويل فوريّ وهذه الشّكوى من عدم التمكّن من القبض على الأبديّة في وثبة واحدة والبرَم ببطء العِلم، والشّعور بالانهيار السّياسيّ المطلَق حالَ انسحاق «كومونة باريس»، هذا كلّه يشي بطبيعة رامبو: كان يصبو إلى تجاوز يتمّ بسرعة البرق ويهفو إلى القصيدة التي تقول دفعة واحدة جميع القصائد. ومن حسن حظّنا أنّ شعوره المتكرّر باستحالة ذلك جعله يُعيد المحاولة غير مرّة، مازجاً على هذا النّحو، في صيغة مُفارِقة، بين الصّبر ونفاده، بين الحاجة إلى الفوريّة وإرادة العمل. كما دفعه ظمؤه للمطلق وللقصيدة الكليّة إلى الطّلوع كلّ مرّة بقصيدة تتجاوز سابقاتها من بعيد. سوى أنّ اللّحظة تأتي، كما يعبّر ألان باديو، التي يفرض فيها القرار نفسه ويرتسم على خلفيّة اللاّقرار هذه. اللّحظة التي ينقلب فيها نفاد الصّبر على نفسه ويتحوّل إلى نفاد صبرٍ... من عدم الصّبر (كما نقول: ملل من الملل). آنئذٍ ـ وكم في هذا من السّخرية المُرّة! ـ يكون كلّ حلّ مناسباً، خصوصاً أهوَن الحلول. يرى باديو أنّ رامبو، بمواجهة الإنجاز الفوريّ المتعذّر، اختار عدم الإنجاز، وكالثّوريّين المتعبَين غادر الشّعر (الذي اعتبرَه هو، في «فصل في الجحيم» «إحدى حماقاته»)، غادره إلى الحياة الغفْل وإلى التّجارة، في نوع من محاولة للقيام بما يمكن القيام به أو لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لم تكن هذه انعطافة مفاجئة ولا قراراً مضادّاً مرتجَلاً، بقدر ما هي تحقّق لخطر الانقطاع والانْبتار الذي كان مشروع رامبو الحياتيّ والشّعريّ يحمله بالأصل. لهذا الباعث يُعلن الفيلسوف عن تفضيله (وتدفعه أمانته الفكريّة إلى التّأكيد على أنّه يقوم بذلك كفيلسوف لا كشاعر)، تفضيله أنموذج مالارمه الذي يقبض على «الأبديّة» بفعلِ عملٍ صابر مستأنَف كلَّ يوم. لا ندري إذا كان ممكناً، من وجهة نظر الشّعر، الاختيار بين الأنموذجين الرّفيعين هذين، وباديو نفسه، عندما يرجع بالمسألة إلى ساحة الشّعر، يُعيد صياغة المقارنة كما يأتي: «من ناحية رامبو، هناك السِّحر اللاّ يُضاهى المتلاشي. ومن ناحية مالارمه، هناك السّيرورة التي في خاتمتها تسطع الفكرة. أنْ نحبّ القصيدة هو أنْ نحبّ التمكّن من عدم الاختيار (بين الأنموذجَين)». وهو يعترف لرامبو بعبقريّة تتمثّل في صياغة نفاد الصّبر و«تعليق ما لا قرار له»، نفاد صبر ولا ـ قرار لا يرى هو فيهما «مزاجاً شخصيّاً ولا علامة على هستيريّة»، بل «مقولة فكريّة» و«إيماءة ثقافيّة تقوم على عدم الاكتفاء بالفعل المحدود» .45 وعليه، فالمسألة قد لا تكون مسألة اختيار بقدر ما هي مسألة تكوين روحيّ وشاكلة كيانيّة. هناك، من جهة، شعراء المُسارَعة في القول الشّعريّ، يقبضون على حقيقة وجَمال شعريَّين كبيرَين بمجهود لاهب وموجز في الزّمن (جون كيتس، لوتريامون، غيورغ تراكل، ورامبو نفسه، وآخرون). ومن جهة ثانية، هناك شعراء الصّبر والأعمال المستأنَفة (شكسبير، ريلكه، مالارمه نفسه، وسواهم). ولكلّ من الأنموذجَين بالطّبع نُسَخُه السلبيّة ومزيَّفوه: شعراء وجيزو الأعمال عن كسل وبلا عمق، وآخرون تفصح ضخامة إنتاجهم الكميّة عن تكرار وعدم تجدُّد. تجديد رامبو ينبغي الإشارة أخيراً إلى ما ستلزم دراسات كاملة للإحاطة به: تجديد رامبو لعمل الأواليّات البلاغيّة والإنشاء اللّغويّ للقصيدة. من ابتكاراته في هذا المضمار، يذكر ميشيل دوغي تعميمه «البدليّة» على صعيد المفردات مثلما على صعيد العبارات، فلا يكون للفعل فاعل واحد ولا مفعول واحد، بل تتعدّد العناصر وتتراكم الأطُر المَرجعيّة. ولا يهمّ رامبو، وهذا تجديد آخر، أن يكون بعض هذه الفواعل أو المفاعيل عائداً إلى مجال التّشخيص والبعض الآخر منتمياً إلى المجرّدات، أو أن يكون بعضها معامَلاً على التّعريف والبعض الآخر على التّنكير، فهذه الفواصل المنطقيّة هي لديه نافلة أو لاغية. هناك أيضاً تجميع الصّفات في سلسلة بعد تقديم الموصوفات في سلسلة أولى، والمعنى أو السّياق هو الذي يحدّد عائديّة النّعت إلى منعوته الصّحيح. يرافق هذا تلاعب بالضّمائر من فرديّة وجمعيّة، مذكّرة ومؤنّثة، وتوظيف أسماء أعلام بعضها غفل (ميشيل وكريستين مثلاً، في القصيدة الحاملة هذين الإسمين عنواناً)، وهذا ممّا يُنعش التّأويل ويحيطه في الأوان ذاته بصعوبة بالغة، بل يقود في حالة رامبو إلى ما يدعوه دوغي «التّأويل غير المتناهي»، وهو ما ينبغي تحاشي الوقوع في حبائله (ولنا إلى هذا عودة). وعلى وجه العموم، فإنّ رامبو يعمل بأواليّات تُخالف ما تعارفَ عليه الشّعر والنّقد. لقد انشغل منظّرو فنّ الشّعر في العقود السّابقة بما دعاه جان كوهين Jean Cohen «الانزياح» écart، من منظور يرى أنّ الشّعر يستمدّ خصوصيّته من مفارقته في لحظات معيّنة للقاعدة أو الشّيفرة اللّغوية المتعاقَد عليها من قِبل المتكلّمين. دوغي يرى أنّ رامبو يجعل بالعكس من الانزياح هو القاعدة. (باريس) [ من مقدمة كاظم جهاد لكتابه «آرتور رامبو ـ الآثار الشعرية» الذي يصدر قريبا عن دار الجمل

Aucun commentaire: