vendredi 29 juin 2007

عيتاني وهوياته


عيتانـي وهوياتـه .. الكثيـر لمسـتقبل لـم يعـد أكيـداً
عباس بيضون«هويات كثيرة وحيرة واحدة» لا ابالغ إذا قلت إنه رحلة، اذ لا ينتهي القارئ من الـ250 صفحة تقريباً التي اشتملت على الكتاب حتى يكون اوفى على مكتبة كاملة. فكل ما كتب حول المسألة اللبنانية، إذا صحت هذه التسمية، قد حظي بزيارة وقطف منه شيء من زهرته. يبدو الكتاب من هذه الناحية كتاب الكتب ويذكرنا بما ساقه الجاحظ في مقدمة الحيوان تزكية لكتابه من إن كل ما جاء في بابه مجموع فيه. كتاب حسام عيتاني جامع حقاً. شاء لكتابه الاول ان يكون في جانب منه خلاصة لكل أدبيات المسألة. أراد ان لا يفلت منه أي من مرامي المسألة اللبنانية ومباحثها وأغراضها، وأن يقدم للقارئ انسيكلوبيديا صغيرة في هذا الموضوع. هكذا تتعاقب في الكتاب استشهادات من ميشال شيحا، جواد بولس، يوسف السودا، شارل مالك، دومينيك شفاليه، وضاح شرارة، احمد بيضون، جورج قرم، ايليا حريق، سمير خلف، كمال الصليبي، غسان تويني، اسامة المقدسي، توفيق قرم، فواز طرابلسي، ألبرت حوراني، حميد موراني، كمال حمدان، مهدي عامل... الخ. ليست قائمة طويلة فحسب لكن معظم من فيها شخوص دائمون، يغيبون ويحضرون. شأنهم في ذلك شأن عيتاني نفسه. كأن الكتاب حوارية شاسعة لهم وتقاطع ضخم منهم. وإذا تحرينا وجدنا عيتاني يتوارى كثيراً خلف شخصياته هذه او يتكلم بألسنتها، وهو مثلها يغيب ويحضر، يتدخل بحساب ويدير شخصياته بحساب فهو في ذلك اشبه بالمخرج او السيناريست، لكنه في مطرح آخر اكاديمي مر لا تند عنه كلمة الا وتحتها ركيزة راسخة من مراجع او كدس من وثائق. الكتاب مع ذلك لا يعاني من جفاف اكاديمي. يكفيك ان عيتاني بدأ بسيرته العائلية مثالا على سيرة مدينية لبنانية وختم بسيرة بيتية. هذه المقابلة بين سيرة بيت وسيرة بلد ليست برانية. إنها اندراج حياة عائلة في حياة مدينة. هندسة المدينة الاجتماعية وتنوعها ومعاناتها كل ذلك ظاهر في معاناة أسره ويومياتها، بين الميكر والماكرو تراسل وتقاطع. إنه مسرح من منصتين. كأن عيتاني أراد ان يقول إن المدينة جسده الكبير وحياته الأوسع. وأن فيما يتكلم عن لبنان او عن بيروت، فإنما يروي سيرته الجامعة. يقول حسام إن أباه عشية سفره لم يوصه بشيء إلا بالقضية. إنها براءة المناضل لا تخشبه ومحمد عيتاني جدير ببراءة كهذه. احترقت احلام الأب اما الابن فانتقل الى نقد الحلم، ليس حسام عيتاني، الذي لم تحضر له عند ميلاد طفله الاول سوى ذكرى ابيه، بالمهجوس بالثأر من والده. إنه بخلاف ذلك لا يزال يسعى الى ان يتعرف في ابنه على ابيه قبل ان يتعرف فيه على نفسه. لا يحرجه ان يعترف بذلك، فهو في سيرته يريد ان يكون ابنا لهذا الأب كما يريد ان يكون ابنا لهذه المدينة، يريد ان تكون له استمرارية في هذه الأرض ولا يجد سبباً ليلغها، انه فقط يطارد هذا الحلم الخادع الذي احرق قلب ابيه كما يطارد المرء قاتلا او مشبوها، لا يريد ان يربي سلالة لكنه يعرف انه وأباه وربما ابنه في الميدان نفسه، والارجح انه في عمله النقدي هذا إذا كانت التسمية ملائمة يواصل بطريقة اخرى عمل ابيه او على الاقل يتواصل معه. اذ لا يفتأ حسام عيتاني يقول لنا إن له شجرة صغيرة في هذه البلاد وإنه ابن هذه المدينة وبهذه الصفة يتكلم، وبهذه الصفة يبحث ويناقش، هذه البحث الذي هو امتداد لوجوده هنا، هو ايضا بحث عن نفسه وعن حياته، ليس المناضل بعيدا عن ذلك لكنه مناضل من نوع آخر. قراءة كتاب حسام عيتاني تفيدنا كثيرا عن ثقافتنا، اذ انه بهذا الجمع يرينا ان مكتبة بحالها نشأت حول المسألة اللبنانية، وبعض ما فيها ثمين وحصيف، نفهم ان لبنان قد يكون البلد العربي الوحيد الذي تجاوز التعميمات والرطانات والتوتولوجيات ونعم بنقاش خصب ومتنوع حول نظامه السياسي وبنيانه السياسي. بل إن جانبا من هذا النقاش اتسم بقدرة نظرية وتحليلية واضحة، بوسعنا القول لذلك بأن ثمة عملا نظريا حقا بل ويمكننا الادعاء ان لنا هياكل فكر سياسي خاص. إذا كان حسام عيتاني قد الف كتابه في لحظة صعبة ميالة الى الانكار والعقوق. لحظة هي بحد ذاتها محك ظالم لهذا النتاج، فإن للارتياب الذي طبع الكتاب بكل المقولات تقريبا سببه الواضح، اذ ليس بعيدا ان نحمل هذه المقولات بعضا من الفخ الذي نحن فيه، ولربما تراءى لنا ان حبل الأكاذيب لا يتوقف عند حلم الأب المغدور لكنه يتتابع الى حياتنا ووجودنا وان علينا ان نبطله قبل ان يصعقنا. جدل الهوية هو قوام الفكر السياسي اللبناني، وجدل الهوية غير بعيد عن جدل الطوائف وتصوراتها التاريخية وأساطيرها المؤسسة، بيد اننا لا نجد في خطابات الهوية كلام الطوائف الخام واعتدادها الذاتي وعصبياتها المباشرة فخطابات الهوية تصدر عن تحويل ايديولوجي كامل، انها اعلاء بالمزايا الذاتية او الصور عنها الى درجة المبدأ وتعميم لها على البلد كله وفصل لها عن مصادرها المباشرة. فحين يتكلم جواد بولس عن الطابع الخاص للبنانيين منذ الفينيقيين حتى أيامنا هذه، وحين يجري الكلام عند كثيرين عن الفرادة اللبنانية وحين تمتاز هذه الفرادة بجوهرانية خالصة، لا نبتعد كثيرا عن ذلك. بل ان في وصف هذه الهوية وتحديدها سواء إزاء الجوار العربي او إزاء الغرب او إزاء الحوض المتوسطي، في كل ذلك لا يتعب المرء حتى يجد التحويل الايديولوجي والاعلاء الذاتي وربما الخطاب الطائفي المموه. يمكننا ان نتكلم عن خطاب الهوية احيانا كبناء فوقي للنعرة الطائفية، لكن في التعميم الوطني لذلك وتنكب الخطاب عن اعلان طائفيته وعماه عنها في احيان، في ذلك كله ما يجعل اللعبة الايديولوجية عصية على القبض عليها وإصابتها في الصميم، بقدر ما يبدو التمويه الوطني حداً دون الانفصال والانقسام النهائي وأفقاً بعيداً لتسوية عامة. بيد ان اللاوعي الطائفي لأطروحات كهذه يجعلها تحمل صورة الانقسام الاهلي فتتصاد وتتنابذ وتثبت في اماكنها بدون حراك يتيح تداخلا او تفاعلا او حوارا حقيقيا. لا يحتاج حسام عيتاني الى تبيان هذه الطبيعة الايديولوجية للهوية فهي ماثلة في كلامه منذ السطر الاول، وهي حاضرة في وعي البحث ومسلماته. لكننا احيانا نحتاج الى هذا التصنيف المدرسي لكي لا نقع في شبهة الخلط بين البواعث الطائفية وتمويهها الايديولوجي. فالجدل بين الشرق والغرب والعروبة واللبنانية والعربية والمتوسطية على الرغم من منطلقاته الطائفية لا ينحصر فيها، ولا يمكننا التعويل كليا على اللاوعي الطائفي الماثل فيه. فهذه الخيارات على الرغم من مصادرها الاولى وحتى جمودها عند هذه المصادر تملك استقلالا عنها بل ويمكن القول ان المخاض الايديولوجي الذي ولدها لا ينفي ان لها نسبيا وجودا موضوعيا، ولا يجوز نبذها او تنحيتها لمجرد شبهة المصور او الباعث. اذا كانت لعنة الاصل تعيق النقاش وتعيقها عن ان تبدو لنا كإمكانات وخيارات حرة، الا ان لعنة الولادة هذه لا تكفي لازاحتها بتحليل شبه نفساني او بغضب محق فهما قد لا يكونان، في المنطق نفسه، بريئين. حين يرد عيتاني على سبيل المثال تبني الموارنة للغة العربية على أنه مجرد ممر من عزلتهم الجبلية نحو الغرب، اشعر بشيء من الجفله فأنا بدون علم، بهذا الموضوع، أشعر أن الانتقال اللغوي هذا خيار تاريخي ولا يجوز ان يؤخذ بالقصدية والارادوية ويتناول على أنه احتيال او تذرع او توسل. شيء من هذا اشعر به تجاه تحليل للمتوسطية على انها فرار من اسلامية السواحل، فهنا ايضا الارادوية نفسها. ولا ازال اشعر بذلك تجاه بعض تعليقات عيتاني على ميشال شيحا اذ لا يزال يعارض افكارا نفاذة بلا وعيها الطائفي المفترض. أحسب ان فضح ما يسميه حسام عيتاني، جرياً على آخرين، الايديولوجيا اللبنانية هو واحد من ألعابنا الديالكتيكية الكبرى. وأظن أننا جميعا تمتعنا بذلك. لكني اخشى اننا بالغنا في استمتاعنا وأننا فيما كنا نكشف بسهولة التمويه الايديولوجي، غامرنا بنسيان المخاض التاريخي لما سيسميه وضاح شرارة الخط الجماهيري الذي هو في أساس تكوين لبنان الحالي. ذلك ان النقد الايديولوجي محذوفا منه العامية والتحول الاقتصادي والتعليمي والاداري قد لا يوفي الى غايته، وقد يسقط، بدون انتباه، في يساروية لا تسلم هي الاخرى من النعرات. التصنيف المدرسي المنهجي قد يحتاجه المبحث رغم انه في وعيه وفي ضميره. للتمييز بين شعراء الهوية ونقادها. اذا كان جواد بولس ويوسف السودا وشارك مالك وسعيد عقل بالطبع يتغنون بالهوية كأقنوم مفارق لا يملك سؤالا، فإن الآخرين الذين سموا في مطلع هذا التعليق يطرحون على خطاب الهوية اسئلة النظام اللبناني والتاريخ اللبناني والمستقبل اللبناني. نحن هنا أمام عمل نقدي يشكل في مجموعه تراثا نظريا متكاملا، ان الطائفية كنزعة قومية سابقة على الدولة وكقاعدة صراع لا يقصد منه كسب الآخر مما يغرقه في الثأر الدموي، وكخط لليمين الجماهيري، والنظام الطائفي كأليغارشية وفدرالية مموهتين والدولة كمحل تناقض، يجعلها تنزع الى حماية نفسها. هذه بالطبع عناوين وسواها كثير لكنه يعني ان مكتبة مصغرة في كتاب حسام عيتاني لهذا التراث ترينا كم ان فيه الكثير لمستقبل هو نفسه لا نتأكد من انه لا يزال موجودا. أحد كشوفات الكتاب ما سمي بميثاق عبد الحميد كرامي وأود ان نشترك في قراءته ملخصاً (1) لبنان ليس وطنا لدين من الأديان (2) لن يضم كليا او جزئيا الى قطر آخر (3) الأمة اللبنانية ينبغي ان يسودها العدل والمساواة (4) حدود لبنان نهائية مقدسة (5) يتعاون لبنان الى أقصى الحدود مع الدول العربية (6) ان لا يشعر احد في لبنان بأنه مغبون. هذه هي خلاصة ميثاق مفتي طرابلس وهو لا يزال الى الآن جامعا وفاعلا. لكن ميشال شيحا منظر النظام اللبناني وناقده الأول لا يزال مرجعاً صالحاً لفهم ما يخفي على الأبناء او فاتهم بسبب عماهم الايديولوجي المتفاقم، «انه نظام شراكة سياسية، نظام ديكتاتورية مموهة، فعوض ان نشهد زيادة في صناعة المواطنين نشهد تفاقماً في تكديس الجمهور القطيعي، انه وجه مبتكر من وجوه الفدرالية». استعيد هذه العبارات لأترك للجميع ان يزنوها بميزان الحاضر. ربما ليلاحظوا كم ان هذا التراث عامر بالأحابيل بقدر ما هو حافل بإضاءات مبكرة طالما تجاهلناها. بيد انني في موضوع شيحا، أرى ان حسام عيتاني أخذه بخفة، وحاسبه بحق او بغير حق على طوايا مفترضة. ولست أجادل في هذه الطوايا لكني ارى ان الابتعاد اليها هو بحد ذاته موضع لوم فإن في نص ميشال شيحا من القوة الديالكتيكية ومن النفاذ الى التكوين المتناقض للنظام اللبناني ومن الحكمة في معالجته وفي فضح طبيعته الاضطرارية ما كان يجب ان يغري كاتبا في حصافة حسام عيتاني اكثر من مناكدته على طوايا صغيرة لم يخطئ غالبا في سبرها. لكن في وصف ميشال شيحا بالمصرفي الجزويتي ذي الاصول العراقية السورية ما يقلقني حقا فقد فات حسام ان في هذا الوصف ما يشبه النعرة ويمكن ان نحمله على يسارية عيتاني او ما تبقى منها. لكن المقلق هو التلميح الى لا لبنانيته، وأظن ان في الايحاء بلا لبنانية مدافع عن لبنان هو بحد ذاته امر له بسيكولوجيته التي احسب ان عيتاني لم يحتط لها كثيرا. لكن في بعض ما نأخذه على كتاب حسام عيتاني جاذبيته. إنه انتماؤه وغضبه ونقديته العالية وإحساسه بحراجة اللحظة. يتصدى حسام عيتاني لكل ما يضع عناصر لبنان خارج حدود الفهم والإدراك، وهذا الكتاب بحق محاولة جدية لوضع هذه العناصر والمقومات تحت نور الفهم والإدراك.

Aucun commentaire: