lundi 23 juillet 2007

Seule en scène, une Libanaise raconte sa vie




Seule en scène, une Libanaise raconte sa vie

LE MONDE 20.07.07
Des affiches du "off", il y en a des milliers dans les rues d'Avignon. Pourquoi celle-ci arrête-t-elle le regard ? Elle n'a rien d'exceptionnel : un visage flou de femme sur fond noir, avec un titre un peu trop joli, en rouge : Le Jour où Nina Simone a cessé de chanter. Mais il y a le nom de Darina Al Joundi, une actrice libanaise qui a joué dans les films de Yousry Nasrallah (La Porte du soleil), Jean Chamoun (Derrière les lignes) ou Ghassan Salhab (Beyrouth fantôme).
, une des salles permanentes d'Avignon. Darina Al- Joundi oeuvre dans les murs nus de la chapelle Sainte-Claire. "Je ne vous attendais plus", dit-elle au public quand la lumière se fait. Et aussitôt on sent que cette femme est là parce qu'elle a vraiment quelque chose à dire. C'est sa vie qu'elle vient raconter. Une vie à la liberté démente : celle d'une enfant de la guerre, et d'une fille trop aimée d'un père.
Ce père a passé la moitié de sa vie en prison. Ecrivain et journaliste syrien installé au Liban, il est parti "faire la révolution" dans son pays quand la guerre du Liban a éclaté. Darina Al-Joundi était âgée de 7 ans. Elle vivra son adolescence sous les bombes, corps et tête en feu. Son père a pour elle les rêves les plus fous : en faire une femme sans tabou, sexuel ou religieux, dans un Orient où "les hommes passent leur vie à offrir sur un plateau leur cul au bon Dieu", et où les femmes sont obsédées par la virginité, "le seul capital dont peut disposer une fille arabe".
Heureusement que les murs de la chapelle Sainte-Claire sont désacralisés. Ils trembleraient sinon devant l'impiété impitoyable du récit de Darina Al-Joundi, projetée dans la vie et dans la guerre avec la même sauvagerie. "Je suis sûre que tous ceux qui ont vécu durant la guerre ne rêvent que de la guerre", dit-elle. Dans les deux sens du mot rêve : cauchemar mais surtout liberté, cette liberté insensée qui remet tout en jeu à chaque instant.
Puisque tout est possible, que vivre et mourir se valent, autant danser sous les bombes, bourré de drogue, ivre de sexe. Darina Al- Joundi ne connaît pas de limite. Même pas celle de la roulette russe, qui fait gicler de la boîte crânienne le cerveau d'un homme qu'elle aime. L'amour de son père est le tribut de sa propre guerre. Il a voulu sa fille libre, elle se retrouve prisonnière d'une liberté impossible, qu'elle paiera au prix fort.
BEAUTÉ BLESSÉE
Nous ne dirons pas quel fut ce prix, ni ce qu'il advint de Darina Al-Joundi et de son père. Ces choses-là ne se racontent pas. Elle s'entendent et s'incarnent dans la beauté ivre et blessée d'une femme en robe d'été rouge, comme le sang, et la première couleur que l'on ose, à la fin d'un deuil. Il a fallu du temps à Darina Al-Joundi pour en arriver là. Elle était âgée de vingt-cinq ans à la fin de la guerre, elle en a aujourd'hui trente-neuf.
Son récit a coulé d'elle comme un fleuve en crue. L'écrivain Mohamed Kacimi l'a aidée à contenir ses mots, rythmés par une chanson de Nina Simone, Sinnerman. Une chanson obsédante, comme le désir de vie d'une femme, Darina Al-Joundi.

lundi 16 juillet 2007

...علي أهدابه عشب الجليل


علي أهدابه عشب الجليل
صبحي حديدي
16/07/2007
كما يحقّ لأيّ شاعر أن يحسد محمود درويش علي أمسية حيفا المشهودة، سواء في مستوي الاختبار الرهيب لعلاقة الشعر العيانية بالمتلقي، باديء ذي بدء، أو في البعد الإنساني الاحتفائي والاحتفالي والطقسي لإلقاء الشعر ضمن سياقات استثنائية كهذه بالذات؛ كذلك يحقّ للشاعر ذاته أن يشفق علي درويش إذا تخيّل مقدار الضغوطات الهائلة، التي ستكون متبادلة عارمة عاتية، بين حاجات الحشود وحاجات القصيدة، وبين علم نفس العواطف الجَمْعية وعلم جمال الشعر الرفيع.وفي حوار مع الإتحاد الحيفاوية شدّد درويش علي عنصرَي اللهفة والخشية في لقائه بأبناء شعبه بعد كلّ هذا الغياب، وعلي أرض حيفا التي تحتلّ في نفسه ـ في شعوره، كما في شعره ـ مكانة خاصة: تمتزج الخشية باللهفة لأنّ الزمن الذي فصلنا عن بعض زمن طويل، كبرتُ فيه بطريقة ما، وأبناء جيلي كبروا بطريقة ما، ونمت أجيال جديدة لم يحصل من قبل احتكاك بحساسيتها الشعرية. لذلك أنا ذاهب إلي ما يشبه المجهول الجميل . وبعد أن أكّد، وفي الوسع تصديقه تماماً، أنه يشعر كمَنْ يقرأ للمرّة الأولي ويدخل امتحانًا، تمني درويش أن تكون المسافة الجغرافية بيني وبين قرّاء الشعر الذين سألتقيهم في حيفا مسافة وهمية، وأن يكون التطابق كاملاً بين ما أحسّ به وما يحسّون به، وبين حساسيتي الشعرية وحساسيتهم الشعرية .هيهات، مع ذلك، أن يبلغ التطابق درجة كاملة في قاعة كهذه وتحت تأثير السياقات العديدة، الإنسانية والسياسية والعاطفية والوطنية، التي اكتنفت تنظيم لقاء نوعي بالغ الخصوصية، سرعان ما تجاوز بكثير أغراض أمسيات الشعر. وغنيّ عن القول إنني أكتب هذه السطور قبل ساعات من بدء الأمسية، وأتمني حقاً أن تخيّب وقائعها وجهة نظري الحذرة تجاه احتمالات التطابق الكامل بين حساسية درويش وحساسية ذلك الجمهور، تلك القاعة، ذلك المكان. غنيّ عن القول، كذلك، أنني هنا لا أقصد البتة الإيحاء بحكم قيمة من أيّ نوع علي جمهور قاعة الـ أوديتوريوم الحيفاوية، بالقياس علي جمهور درويش في أيّ مكان قرأ فيه شعراً، بل لعلّ العكس بالضبط هو ما أرمي إليه: أنني أنحاز إلي حساسية هذا الجمهور، أكثر من انحيازي إلي حساسية الشاعر.ومنذ مطالع السبعينيات أصغيت إلي درويش يقرأ شعراً في مدن كثيرة: دمشق وعمّان وصنعاء وعدن وتونس وقفصة والرباط والدار البيضاء والقاهرة ودبي... وكنت غالباً أبتهج حين يفاجيء جمهوره بشعر جديد، أو علي نحو أدقّ: حين يميل إلي تغليب حقوق القصيدة الجديدة (التي يحدث مراراً أن يجدها المتلقي شاقة، صعبة، أو حتي غريبة بعض الشيء للوهلة الأولي) علي رغبات الجمهور. ولكن لو قُيّض لي أن أكون في صفوف مستمعيه الحيفاويين أمس، هل كنت سأتردّد في المطالبة بحقّي في أن يقرأ شيئاً من شعره القديم، اللصيق بالذاكرة الجمالية والذاكرة الوطنية، الضارب عميقاً في باطن الذائقة الجَمْعية؟ وأيّ ارتطام للحساسيات (وهمي أصلاً، وافتراضيّ) يمكن أن يمنع الشاعر من قراءة قصيدة له أحبّها جمهوره، أو حتي أفرط في حبّها حتي رفعها إلي مصافّ الأيقونة؟ لماذا لا أطالب بقصائد قديمة مثل بطاقة هوية و عاشق من فلسطين و إلي أمّي و برقية من السجن و موّال و يوميات جرح فلسطيني حين ذكّر العالم: نحن في حلّ من التذكار/ فالكرمل فينا/ وعلي أهدابنا عشب الجليلِ/ لا تقولي: ليتنا نركض كالنهر إليها، لا تقولي/ نحن في لحم بلادي... وهي فينا ... تماماً كحقّ درويش في أن يقرأ لي ما يشاء من أحدث قصيدة كتبها، ويري أنها تمثل شعريته الراهنة؟ وإذا لم أطالب بهذا الحقّ وأنا أستمع إليه في حيفا، فأين ينبغي أن أطالب به؟غير أنّ درويش يُحسد علي ذلك الناظم الذهبي الذي يدير العلاقة بين شعره الجديد وقارئه الدائم، الأمر الذي سبق لي أن توقفت عنده بتفصيل أكثر في مناسبات سابقة. فإلي جانب عناده الشخصي وإصراره علي تطوير برنامجه الجمالي، حظي درويش بمساعدة القاريء ذاته في مواصلة التطوير، لأنّ القاريء كان ويظلّ رفيع الاستجابة، ولا يتردد طويلاً قبل أن يجد مكانه في الطور الجديد. ولقد تبدّي هذا الوضع في القصائد الملحمية الطويلة بصفة خاصة، حيث كانت هذه تكتسب بُعداً أيقونياً يسري علي القصيدة محطّ هوي القاريء، والقصيدة (ذاتها) وهي تمهّد لخيارات قادمة في قصيدة جديدة. وهكذا اكتسبت سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا ، 1972، وظيفتها الأيقونية حين استجمعت دلالات التراجيديا الفلسطينية في شخص سرحان بشارة سرحان؛ ولكنها ظلّت ماثلة في ذائقة القاريء حين قرأ أحمد الزعتر ، 1977، قبل أن تكتسب هذه بدورها وظيفتها الأيقونية بالنسبة إلي مديح الظل العالي ، 1983؛ وهذه بالنسبة إلي قصيدة بيروت ، 1983؛ ثمّ مأساة النرجس، ملهاة الفضة ، و أحد عشر كوكباً علي آخر المشهد الأندلسي ، وهكذا...وإذا صحّ أنّ التطابق الكامل ممتنع لاعتبارات ذاتية وموضوعية، ولعلّه غير مطلوب أصلاً، أفلا يُحسد درويش علي هذا التطابق الراهن، المتقدّم المتنامي باضطراد؟ وإذْ يحييّ المرء الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ومجلة مشارف علي مبادرة أدبية ذكية انقلبت سريعاً إلي حدث وطني، أفلا تُحسد حيفا ـ وفلسطين قاطبة ـ علي حشد نوعيّ أسقط مسبقاً كلّ المسافات الوهمية بين ذائقة وذائقة، وبطاقة هوية وأخري؟

محسن مهدي أو تضافر العالِم والأديب


كاظم جهاد

(غادرنا منذ أيّام المفكّر العراقيّ محسن مهدي عن واحد وثمانين عاماً، هو الذي ولد في كربلاء في العراق في 1926 ودرس في الجامعة الأميركيّة ببيروت في أواسط الأربعينيّات من القرن المنصرم، وأمضى عقوداً عديدة يعمل أستاذاً للفكر الإسلاميّ في جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأميركيّة، وعُرف، إلى جانب تحقيقه نصوصاً عديدة للفارابي، بدراسات عديدة وضعها بالعربيّة والإنجليزيّة، منها "فلسفة ابن خلدون في التاريخ" (لندن، 1957) و"فلسفة أرسطو عند الفارابي" (بيروت، 1961)، و"كتاب الفارابي في الأدبيّات" (بيروت، 1969) و"الاستشراق ودراسة الفلسفة الإسلاميّة" (أكسفورد، 1990).
عني محسن مهدي، كما أسلفنا في الإشارة إليه، عناية خاصّة بفكر أبي نصر الفارابي، المعروف بـ "المعلّم الثاني"، فحقّق العديد من نصوصه وقدّم لها بالعربيّة وترجم بعضها إلى الإنجليزيّة، وشرَحها باللغتين، ودرسها من منظور مقارن، واضعاً إيّاها بمواجهة كتابات فلسفيّة عربيّة وغربيّة قديمة وحديثة. ولعلّ الكتاب الذي يجمع في ترجمة فرنسية محاضراته التي ألقاها في معهد "العالم العربيّ" بباريس في 1991 ، والذي صدر في منشورات "فايار" الفرنسية تحت عنوان: "مدينة الفارابي الفاضلة – ولادة الفلسفة السياسية الإسلامية"(1)، لعلّ هذا الكتاب يقدّم خلاصة دقيقة ومركّزة للشاكلة التي بها كان مهدي يرى عمق تفكير الفارابي وراهنيّته.
من خلال الفارابي، وبالاستناد إليه دوماً، انطلق مهدي إلى دراسة المفكّرين الآخرين، شرقيّين كانوا أم غربيّين. وبالبحث عن نقاط التلاقي مع المعلّم الثاني أو الافتراق عنه، تبحّر في دراسة فكر إفلاطون وأرسطو وتوما الإكوينيّ ونصوص الإفلاطونية المحدثة والموسوعيّين الفرنسيّين وفكر الأنوار كلّه، وأعمال ابن رشد وابن خلدون وابن سينا وأبي بكر الرّازي وآخرين، دون أن ينسى الوقوف عند المعاصرين من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمّد إقبال وطه حسين. وغالباً ما كان يمارس السبّاحة ضدّ التيّارات السّائدة ويعارض القناعات الرّاسخة. فبمواجهة القائلين برفض ابن خلدون للفلسفة، كان هو يرى في المؤرّخ التونسيّ "فيلسوفاً مخفيّاً"، أي صاحب فلسفة تُقرأ بين السّطور. وخلافاً لما هو مسكوت عنه، كان يرى أنّ ابن رشد يستلهم الفارابي وإن كان لا يُسميّه، ويالتالي فهناك طبقات من تفكير الفارابيّ منبثّة في الفكر الرّشديّ يكشف عنها الفكر المقارن والقراءة الدّؤوب.
هذا يخلص بنا إلى القول إنّ محسن مهدي كان مولَعاً بفكر الفارابيّ، يشدّه إليه شغف معرفيّ تحوّل إلى مرافقة طويلة الأمد وإلى بحث. كان هذا الولع ينبع من كون الفارابي أوّل من وظّف في الفكر الإسلامي، في القرن العاشر الميلاديّ، الفكر الأفلاطونيّ-الأرسطيّ، وأوّل من أدخل الفلسفة السياسيّة إلى الثقافة العربية-الإسلامية. في هذا الفكر وفي هذه الفلسفة، وجد الفارابي الإجابة الناجعة الوحيدة على التحديّات التي تطرحها الأديان التنزيليّة أو ديانات الوحي على الفلسفة وعلى نظريات القضاء والحُكم. وليفرض اختياره هذا، كان عليه أن يجابه سيادة الإفلاطونية المحدثة، سيادة قادت الفكر إلى ممارسات إشراقيّة وصوفيّة لا تتقدّم باعتبارها كذلك، وإلى عرفانية بعيدة عن الفكر البرهانيّ والمعالجة الفلسفية العقلانية. من دون الرّجوع إلى هذا السياق التاريخيّ والثقافيّ الذي قام فيه الفارابي بمبادرته الرّائدة يصعب – هذا ما أبان عنه محسن مهدي بقوّة – تقدير فكر الفارابي حقّ قدره. وإذا ما رجعنا إلى محاضرات محسن مهدي السّابقة الذّكر في ترجمتها الفرنسية وجدنا أنّه لا يكتفي بدراسة السياق الذي نشأ فيه فكر الفارابي، عبر عمله الأساس "المدينة الفاضلة" بخاصّة، بل يشمل بالبحث السياق اللاحق الذي ساهم المعلّم الثاني في صنعه، سواء داخل الفكر الإسلاميّ أو الفكر اليهوديّ، عبر الأندلسيّ ابن ميمون (القرن الثاني عشر الميلاديّ) أو المسيحيّ توما الإكوينيّ (لقرن الثالث عشر الميلاديّ).
جاء الفارابي كما يشرح محسن مهدي فعله الفسلفيّ ليُنهي التجاهل الذي كان الفلاسفة المسلمون يبدونه للحياة العامّة، ولمزجهم بين الجماعة الدينيّة أو المؤمنة والجماعة السياسيّة، ولإرجائهم البتّ في مسألة النّظام السياسيّ أو نمط الحُكم الأمثل. هكذا كان عليه أن يقرّب الفلسفة السياسية من الإسلام وأن يسبغ على الفكر الإسلاميّ طابعاً سياسيّاً. وكان عليه من أجل ذلك أن يعود إلى فكر أفلاطون وأرسطو، وأن يُظهر إلى العيان أفلاطون السياسيّ المطموس يومذاك في الغرب نفسه، راجعاً لا إلى كتاب "الجمهورية" المعروف بل إلى محاورة "القوانين". وبالمواءمة أو التقريب بين التفكير اليونانيّ القديم وواقع الأمّة الإسلاميّة قدّم الفارابي مقترحه الأساسيّ في مسألة الحُكم: الفيلسوف الحاكم أو النبيّ الفيلسوف هو في رأيه الأكثر اقتداراً على إدارة الأمّة بمقتضى روح العدل. لكنّ لمّا كان من النّادر أن يجتمع النبيّ الفيلسوف والفيلسوف الحاكم في شخص بذاته، فإنّ العمل بمقتضى تشريع واضح ودقيق وشامل يظلّ هو الأمثل. إلى هذه الرّوح القانونيّة، يحمل الحاكم الأمثل صفة القائد العادل الذي لا يستجيب إلى نداء الحرب إلاّ عن ضرورة. وهنا أيضاً، قام الفارابي بزحزحة أساسيّة إذ اجتذب مفهوم الجهاد كحرب مقدّسة إلى مفهومه لحرب ضروريّة وعادلة.
بالمقارنة مع فكر الفارابي، وبالاهتداء به في كلّ مرّة، قدّم مهدي بالإنكليزيّة قراءات عديدة لمفكّرين آخرين، قدامى ومعاصرين. شأنه شأن مفكّرين علمانيّين عديدين، أبدى المفكّر العراقيّ غير مرّة استغرابه من موقفَين متطرّفين ومتساوقين في تطرّفهما. الأوّل لا ينظر إلى العالَم إلاّ من منظور الدّين، والثاني لا ينظر إليه إلاّ من منظور العِلم أو المعرفة. الموقف الأوّل هو منبع جميع الأصوليّات المعروفة، ويقود إلى ما ذكرناه من نسيان للشأن السّياسيّ. وحتّى عندما ينادي أصحاب هذا الموقف بشعارات سياسيّة أو يعمدون إلى اختراق المجال السياسيّ بصورة لافتة أو صاخبة، فهم لا يفعلون في الحقيقة سوى أن يختزلوا السياسيّ إلى الدينيّ، عامدين إلى المطابقة القسريّة بين الجماعتين الدينيّة والسياسيّة. والموقف الثاني يتنكّر لصبوات الأفراد ولحاجات بعضهم الروّحية أو المعتقديّة، فيمارس بدوره إرهاباً أو يُحدث التباسات متساوقة مع هذه التي تنجم عن الموقف الأوّل. ويجد مهدي مثال هذا المنحى في فكر الموسوعيين الفرنسيّين، الذين كانوا يصدرون عن إمكان فرض العقلانية على كافة مناحي الحياة الإنسانيّة ويرون المعرفة العلمية كفيلة بالإجابة على جميع أسئلة الإنسان. وبصورة شديدة الدّلالة يتوقّف مهدي عند رسالة فولتير الشهيرة إلى دولامبير، التي يتساءل فيها كالآتي: إذا كان المسيح وحواريّوه الإثنا عشر قد أحدثوا انقلاباً في الفكر البشريّ، أفلن يكون ممكناً لستّة مفكّرين متنوّرين (مؤلّفي الموسوعة) أن يحدثوا الانقلاب نفسه؟ (2). هكذا، تحاكي أغلب الحركات الفكريّة السّاعية إلى التغيير الشّامل منطق الدّين وتسقط في أواليّاته حيثما تعمل هي للخروج عليه وتنادي بإمكان إزالته.
بحثَ مهدي في الفكر الإسلاميّ القديم والحديث عن نماذج تجسّد هذين الموقفين عبر تنويعاتهما المتعدّدة. فتحتَ قناع التوفيق بين الدّين والعلم، عمل البعض على تغليب سطوة الدّين على سواه، وعمل بعض آخر بالمنطق المعاكس تماماً. من ممثّلي التيّار الأوّل الإمام الغزالي الذي استعرض في "المنقذ من الضلال" العلوم الدينية وغيرالدينية، و"ابتدع طريقة لإدماج الفلسفة والعلوم في سياق علوم الدين، وذلك من خلال وجهة نظر ليست فلسفية تماماً ولاعلمية حقّاً" (3). بالتضادّ مع هذا الموقف تجد من يرون في الدّين مجرّد وهم وخداعويعتقدون بأنّ بإمكان الفرد أن يعيش بصورة أفضل بدونه. وبين أشهر القائلينبهذا المذهب العالِم الفيزيائيّ أبو بكر الرازي، ومن قبله السرخسيّ الذي كان أحد تلاميذ الكندي، وآخرون. هؤلاء ما كان في مقدورهم، في نظر مهدي، النّجاح لأنّهم لم يكونوا فلاسفة حقّاً، بل هم أشبه ما يكونون بمَن يُدعون اليومَ "مفكّرينراديكاليّين".
خلافاً لهذين التيّارين،نجد تقليداً سعى إلى الانطلاق من العلم، وحاول التوفيق بينه وبين الدين بقدرالمستطاع، ومن دون التخلّي عن ثوابت العلم. هنا يصبح الدّين موضوع دراسة، بل موضوع علممحدَّد. ففي كتابه "إحصاء العلوم"، قسّم الفارابي العلوم إلى اللّغة والمنطقوالرياضيّات والفيزياء وما وراء الطبيعة وعلم السياسة أو الفلسفةالسياسية. هنا "يجد الدين مكانته داخلوجهة نظر علمية كونيّة. فالدّين والعلوم الدينية تُفهم ويُحكم عليها على أساس تفسيرفلسفيّ أو علمي للوحي والنبوّة وعلى أساس وظيفة العلوم الدينية بما في ذلك علماللاهوت، ضمن الجماعة الدينيّة". ويتبنى ابن رشد الموقف نفسه عندما يسأل الغزالي ما هي في نظره النقاط الأساسية للخلاف بين الفلسفة أو العلم من جهة والدّين من جهة أخرى،ويرى "أنّ القضية برمتهاتقوم على سوء فهم، بل لا توجد هنا قضيّة على الإطلاق. ولذلك قرّر أن يرمي بها خارج المحكمة، وأعلن إضافة إلى ذلك أنّ الغزاليقد أضرّ بالدّين وبالعلوم بخلطه بين الأمور".
في الفكر إلاسلاميّ الحديث، لاحظ محسن مهدي تناحراً مشابهاً بين مواقف متماثلة في تطرّفها. فهناك تيّار يرى أنّ العلم الغربيّ هو علم عربيّ أو علم إسلاميّتمّ تطويره والإضافة إليه، وعليه فبالإمكان تداوله مرّة أخرى بحريّة دون خشية أيّةإشكاليات جديّة. وتيّار آخر يقترح أن العالم العربيّ هو جزء من الغرب وعليه فلن يكون هناك مشكل في تبنّي العلوم الحديثة. التّيار الأوّل، الذي يجد أبرز ممثّليه في جمال الدّين الأفغانيّ ومحمّد عبده وتلميذه رشيد رضا يُلقي على العلم نظرة نفعيّة أو استعماليّة ويغفل عن إشكالات صارخة تتعلّق بارتباط العلم بالإيديولوجيا ومجمل المنظومات السياسيّة والمعرفيّة. والتّيار الثاني، الذي يرى مهدي أبرز دعاته في الهنديّ محمّد إقبال والمصريّ طه حسين، يشي بافتتان بأورّبا يذهب أحياناً إلى حدّ الدّعوة إلى الذّوبان فيها.
لكنّ مهدي يلاحظ بالمقابل لدى المفكّرين العرب والمسلمين المعاصرين وعياً متزايداً بالإشكالات الأساسية للتخلّف والتبعيّة فيالعلاقة مع الغرب. ولقد أدّى هذا الوعي إلى إثارة أسئلة جادة فيما يتعلق بدور العلم الحديثفي المجتمعات المسلمة، كالسؤال المتعلق بدور العلم في الثقافة السياسيّة، وبالشّاكلة التي بها أصبحت العلوم والتقنية الحديثة أداة في أيدي الطغاة بدلاً من أن تدفع إلى الاحتكامإلى القانون. وهناك السؤال الأساسيّ عن خطر توليد هذه العلوم والتقنيات الحديثة نخباًتكنوقراطيّة متخصصة معزولة عن النظام التعليميّ العامّالذي يُصار إلى إهماله، وخاضعة لدوائر القرار السياسيّ.
إلى هذا المجهود الفلسفيّ المحض، ينبغي أن نضيف إسهامات محسن مهدي في ميدانَي اللّغة والأدب. هناك أوّلاً تحقيقه لعدد من مؤلّفات الفارابي في اللّغة والمنطق وتقديمه لها، وفي أوّلها "كتاب الحروف" (4)، و"كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق" (5). وهنا أيضاً نلاحظ ارتباط اللّغة بالفلسفة لدى الفارابي كما لدى مهدي. فلمّا كانت صناعة النّحو تشتمل على أصناف الألفاظ والحروف، فإنّ معرفتها تُسعف "قوى النفس وقوى التّمييز والذّهن". ولمّا كانت الألفاظ هي "الأقاويل التي بها يسهل الشّروع في صناعة المنطق" فإنّ لها مساساً مباشراً بـ"القوّة التي تفيدها صناعة المنطق، والكمال الذي يكسبه الإنسان بها وبتحديد هذه القوّة" (6).
على أنّ أهمّ إسهامات مهدي في هذا المجال تتمثّل في تحقيقه نسخة مجهولة لـ"ألف ليلة وليلة" أصدرها مسبوقة بدراسة ضافية وعميقة عن منشورات "بريل" الهولنديّة المعروفة بسلسة كتبها المخصّصة للدراسات العربيّة والإسلاميّة. تشمل هذه الطبعة ما يقرب من أربعمائة ليلة ولكنّ محقّقها اعتبرها كتاباً كاملاً نظراً لطبيعة الحكايات البنائيّة التي تسمح بتمديدها إلى ما لا نهاية، وباعتبار أنّ العدد "ألف ولية وليلة" يمكن تحميله بدلالة مجازيّة تفيد الكثرة وليس من الضروريّ التقيّد بدلالته الحرفيّة. ميزة هذه النّسخة تتمثّل في كونها محرَّرة بعربيّة عاميّة تجتمع فيها لهجات عديدة، وفي كونها سلمتْ من كلّ رقابة أو تنقيح أو تفصيح قسريّ لاحق. فمن المعروف أنّ طبعتَي بولاق الأولى والثانية للّيالي، اللتين تستند إليهما الطبعات المتداولة للعمل، قد تداولتهما أيدٍ عديدة عبثت بهما تنقيحاً وتهذيباً. وفي دراسته التمهيديّة يورد مهدي أقوالاً لوجوه هامّة من التراث العربيّ تعارض التّصحيح النحويّ واللفظيّ والأخلاقيّ للنصوص التي تتقصّد العاميّة والتحرّر الأخلاقيّ وتجد فيهما غايتهما الإبداعيّة. فها هو ابن قتيبة ينصح قارئ كتابه "عيون الأخبار" بألاّ يبدي امتعاضه إذا ما قابل وصفاً جنسياً أو إيروسيّاً، لأنّ ما يستحقّ الملامة ليس وصف أعضاء الجسد بل اغتياب النّاس وانتهاش كيانهم بالذمّ والنّميمة والسّعي. أمّا التّصحيح النحويّ فيمكن في اعتقاده أن يُذهِب ملوحة بعض الحكايات ويُفقدها متعتها. وها هو الشاعر الأندلسيّ العاميّ ابن قزمان يصرّح مزهوّاً بأنّه استلّ كلامه من النّحو استلال الحسام من غمده. وأخيراً، ها هو الشاعر صفيّ الدين الحلّي يقرّر أنّك تلفي في بعض الأحيان نفسك أمام نصوص تصبح فيها سلامة النّحو خطأً واستقامة النّطق عيباً. إلى هذه الآراء يمكن أن نضيف تنويه الجاحظ في "كتاب البخلاء" إلى كونه حافظ في كتابه على جميع أشكال اللحن والخطأ النحويّ والاستعمال العاميّ لأنّ تفصيحها وتهذيبها إنّما يُخرجانها من الوسط الذي انبثقتْ هي فيه.
وبالفعل فإنّ اللّغة التي بها تتخاطب شخوص الليالي كما أظهرها محسن مهدي إلى النّور تشمل لهجات لا يمكن فحسب عزوها إلى أمصار مختلفة، بل كذلك إلى فئات اجتماعيّة وأوساط مهنيّة متباينة. فالخادمات مثلاً لا يتكلّمن كسيّدات القصور، بل تراهنّ يؤنّثن الذّكر ويذكّرن الأنثى وتختلط لديهنّ الضمائر والأسماء بصورة عجيبة. وبانغراس صيَغ الكلام هذه بمنشئها الاجتماعيّ والطبقيّ تمنح هي في تضافرها العملَ عفويّة فائقة وتسبغ عليه طبيعة كرنفاليّة أو احتفاليّة وبوليفونيّة (تعددّية صوتيّة) ينبغي في اعتقادنا أن تأخذها الترجمات القادمة للّيالي بنظر الاعتبار، ما دام أصبح معروفاً لدى الجميع أنّ نبر الأصوات المتخاطبة في النصّ ومعجمها اللفظيّ وبناء عباراتها ودرجة قربها من سلامة النحو أو خرقها للقاعدة النحويّة تساهم إلى حدّ بعيد في صناعة المعنى وأثر المعنى، وتشكّل في الأوان نفسه مؤشّرات تاريخيّة واجتماعيّة-ثقافيّة بالغة الدّلالة على أصحابها.
كاظم جهاد
المصادر:
(1): أنظر: Musin Mahdi, La Cité vertueuse d’Al-Farabi – La Fondation de la philosophie politique en Islam, trad. de l’anglais par Fr. Zabbal, éd. Albin Michel, Paris, 2000.
(2): أنظر محسن مهدي، "المسالك والتحدّرات الترشيديّة-العقلانية في الإسلام"، ضمن المؤلّف الجماعيّ "المناهج والأعراف العقلانية في الإسلام"، هيّأه للنشر فرهاد دفتري، منشورات دار الساقي، بالاشتراك مع معهد الدراسات الإسماعيليّة، لندن، 2004، ص 83-112. (وقد نجدنا مضطرّين إلى الإشارة هنا ببالغ الأسف إلى الطابع الشائك وغير الدّقيق للترجمة العربيّة لهذا الكتاب. فما هو متعارَف على تسميته "الأفلاطونية المحدثة" ينقلب لدى المترجم إلى "الأفلاطونية الجديدة"، التي يُعزي المترجم تأسيسها إلى أفلاطون نفسه وليس إلى أفلوطين. و"جمهورية الآداب" La République des Lettres تصبح تحت يراعه "جمهورية الرّسائل". كما يتكرّر لديه عشرات المرّات التعبير الغريب: "التحداريّة العقلانيّة"، ولأنّه لا يضع البتّة مقابلات أجنبية للمصطلحات الأساسيّة، فلا تدري هل المقصود نشأة الفكر العقلانيّ أم تحدّره الثقافيّ (جينيالوجيّته) أم شيء آخر. هذا إلى اعتياص العبارة وعسر فهم مراد المؤلّفين في مواضع عديدة. كان الأجدر بدار السّاقي، وهي دار جادّة ومهمّة، أن تبدي عناية أكثر بترجمة هذا الكتاب الذي يضمّ مقالات مجموعة من أهمّ علماء الشرق والغرب).
(3):أنظرMuhsin Mahdi, "Religious Belief and Scientific Belief" in The American Journal of Islamic Social Sciences, vol. 11: 2,1994. pp.245-259.. وقد صدرت الدراسة نفسها في ترجمة عربيّة قام بها أبو بكر با قادر، في مجلة "دراسات شرقية"، العدد المزدوج 23/24، باريس، 2005، ص 165-185. وإلى هذه الدّراسة تحيل الخلاصة التي نتقدّم بها في الفقرات التالية.
(4) أبو نصر الفارابي، "كتاب الحروف"، حقّقه وقدّم له محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، ط 2 في 1999،
(5) أبو نصر الفارابي، "كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق"، حقّقه وقدّم له محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، ط 2 في 1986.
(6): من مقدّمة محسن مهدي لـ ""كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق"، مصدر سبق ذكره. (7): أنظر The Thousand and one Nights, From the Earliest Known Sources, Arabic Text Edited with Introduction by Muhsin Mahdi, éd. Brill, Leiden, 1984..

vendredi 13 juillet 2007

رحيل الأستاذ والصديق محسن مهدي



رحيل البروفيسور العراقي محسن مهدي
أستاذ الفلسفة الإسلامية في هارفارد ومقارن ترجمات «ألف ليلة وليلة»
باريس: إنعام كجه جي توفي في بوسطن، بشرق الولايات المتحدة الأميركية أمس، البروفيسور الأميركي الجنسية، العراقي المولد محسن مهدي. وترك الفقيد الذي تجوّل وعمل استاذاً ومحاضراً في جامعات عالمية عديدة، إرثاً كبيراً من المؤلفات والدراسات في الأدب والفلسفة وعلوم اللغة. وكان عضواً مراسلا في مجمع اللغة العربية في القاهرة.
ولد محسن مهدي في كربلاء عام 1926، وحصل على الشهادة الجامعية الأولية من الجامعة الأميركية في بيروت، ثم نال درجة الماجستير ومن بعدها الدكتوراه في الفلسفة من جامعة شيكاغو في أميركا عام 1954. وعاد الى العراق، على فترتين، للتدريس في جامعة بغداد عامي 1947 و1948، ثم بين 1955 و1957. وفي عام 1958 عاد الى شيكاغو ليعمل في جامعتها لأكثر من عشر سنين، ثم لينتقل للعمل في جامعة هارفارد من 1969 وحتى تقاعده عام 1996. وأدار في هذه الجامعة الأخيرة مركز الدراسات الشرق أوسطية، وكان استاذ كرسي قسم لغات الشرق الأدنى وحضاراته.
وقد عمل البروفيسور مهدي استاذا زائرا في كل من جامعات فريبورغ والقاهرة ولوس أنجليس وبوردو، وكذلك في المعهد المركزي للدراسات الاسلامية في باكستان، لكن الانجاز الحقيقي للعالم الراحل كان في تبحره في الفلسفة الإغريقية وأفكار العصور الوسيطة ودراساته ومحاضراته وكتبه وترجماته حول أفلاطون والفارابي وابن خلدون التي جعلت منه مرجعا عالميا في العلاقة بين ما هو فلسفي وما هو سياسي في الاسلام.
وفي سبعينات القرن الماضي عكف لعشر سنين على تحقيق كتاب «ألف ليلة وليلة»، وفق أقدم النصوص. واحتفت الأوساط الجامعية العالمية بكتاب «الليالي العربية» بأصله الانجليزي، إذ قدم فيه الباحث حصرا لأغلب الدراسات التي دارت حول الليالي ووازن بين ترجماتها الانجليزية، حسب تلميذه وصديقه الدكتور صلاح الفرطوسي.
واعتاد البروفيسور مهدي، منذ سنوات، أن يمضي الصيف في شقة صغيرة له في الدائرة الخامسة من باريس. وكان يشغل نهاراته بالتردد على مكتبة ابن سينا العربية للاطلاع على الكتب الجديدة والالتقاء بطلابه وأصدقائه. وقد دعاه معهد العالم العربي في باريس الى سلسلة من المحاضرات حول مواضيع اختصاصه، وكان لها صداها الكبير. كما دعته جامعة السوربون للمشاركة في المؤتمر الذي اقيم قبل ثلاث سنوات للاحتفال بمرور 300 سنة على أول ترجمة لـ«الليالي» الى الفرنسية، قام بها المستشرق أنطوان غالان. وفي مطعم مغربي غير بعيد عن بيته دعا محسن مهدي وزوجته السيدة سارة أصدقاءهما الى احتفال ببلوغه الثمانين، لكن المحتفى به تأخر عن الحضور، لأنه نسي نفسه في إحدى مكتبات الحي، بين رفاقه، الكتب

vendredi 6 juillet 2007


يوميات الحصر

قبلة ساخنة في عربة الصامتين

جمال الغيطاني

-->باريس : 14 ديسمبرالخامسة والربع بعد الظهرهذا الرصيف الذي نمشي فوقه يؤدي إلي المركز الثقافي المصري الذي ترددت عليه مرات عديدة، إما محاضرا أو زائرا. يقع في مكان متميز، يطل علي طريق السان ميشيل مباشرة، قطعته مرارا سيرا علي الأقدام، المدخل المؤدي إلي صميم المحطة الواقعة علي عمق كبير لا يمر به إلا خط واحد، للوصول إلي المحطة التي سننزل فيها لنركب حافلة تقلنا إلي المستشفي لابد من التغيير في محطة شاتيليه شاسعة المساحة، متعددة الاتجاهات والمستويات، محطتان علي درجة كبيرة من التعقيد خاصة للأجنبي الذي يمر بهما لأول مرة. شاتيليه ومونبارناس، أتجنبهما بقدر الامكان لطول المسافة التي يستغرقها التغيير من خط إلي آخر، وربما لتفضيلي الحركة فوق الأرض عنها تحت الأرض، مهما استغرقت الحافلة من وقت فهناك فرصة للتأمل والفرجة علي المدينة، لكن إذا كان الأمر مرتبطا بمواعيد عمل محددة مثل لقاء إعلامي. أو موعد محاضرة فأفضل وسيلة هي خطوط المترو التي تنطلق بلا عوائق مرور أو اشارات حمراء عند التقاطعات..إنها المرة الأولي التي أنزل فيها إلي تلك المحطة، لا يوحي المدخل الضيق، المحدود بالمساحة والفراغات الموجودة تحت، الحركة كثيفة، الساعة تقترب من الخامسة والنصف ذروة الحركة لانصراف العاملين في معظم المؤسسات عند ذلك التوقيت، مرة صحبت صديقا لبنانيا، كان يعمل في مكتبة ابن سينا، أقدم المكتبات العربية في باريس، أحرص علي زيارتها أكثر من مرة، أجد فيها من الكتب العربية مالا أجده في مكتبات كبري بالقاهرة وعواصم عربية أخري، خاصة الكتب العربية المطبوعة في إيران، نجح صاحبها هاشم معاوية في تجميع الكتب الصادرة في المغرب والمشرق عنده، تلك التي يصعب حركتها في الأقطار العربية نتيجة للحواجز الجمركية والرقابية والريبة الأمنية ضد الكتب. صاحبي هذا كان يعمل بالمكتبة، لكنه لم يكن مجرد بائع للكتب، كان من أكثر الذين عرفتهم في المكتبات العربية معرفة بالعناوين ودور النشر وعدد الطبعات، وما يميز كل منها عن الأخري، كما كان ملما بالمخطوطات وأرقامها وأماكن حفظها، كثيرا ما رأيته يجلس إلي طلبة الدراسات العليا في جامعة باريس الخامسة المواجهة للمكتبة أو في الجامعات الأخري، يذكر لهم المصادر، والمراجع، بل يقترح بعض الموضوعات للبحث، كان وراقا بحق، لا يلم فقط بالعناوين، إنما بالموضوعات التي تتضمنها الكتب والمخطوطات وله رأي وموقف فيها، خلال أسفاري ارتبطت بعلاقات مماثلة مع أصحاب مكتبات وباعة في الاسكندرية، في الدار البيضاء، في تونس، في دمشق، حلب، صنعاء، مراكش، فارس، عمان، دبي، أبوظبي، عدن.. في كل مدينة أنزلها أقصد أقدم وأشهر مكتباتها، وعندما أزورها أكثر من مرة تبدأ بيني وبين أصحابها أو العاملين فيها صلة، لعل من أعمقها تلك التي قامت بيني وبين هاشم معاوية وصاحبي اللبناني هذا الذي يغيب اسمه عني الآن. مشينا ذات ليلة من المكتبة بعد أن أغلقها إلي هذه المحطة، قال إنه يسكن في إحدي الضواحي، وأنه يحتاج إلي مسافة زمنية قدرها خمس وعشرون دقيقة فقط. ربما كان نزوله ذلك النفق الذي ولجته منذ دقائق آخر مرة رأيته فيها. في زياراتي التالية لم أجده في المكتبة، لا أدري إلي أين؟ ربما يقع بيته علي هذا الطريق الذي سأمر به، الرصيف مزدحم، رصيف عريض، ومحطة أكبر من محطات مترو باريس العادية، لا تمر الوجوه الغاربة بالذاكرة فقط ولكن الحاضرة حولي. في محطات الانتقال من مكان إلي آخر، تبدو الملامح مستوخزة مهما بدا من تمهل أصحابها أو تشاغلهم بالنظر إلي الفراغ أو قراءة صحف أو حتي الحديث إلي آخر عند وجود الصحبة، رغم التقارب الشديد لا يعرف أحد شيئا عن الآخر، ربما يلفت أنظار بعضهم تكرار ملامح معينة نتيجة قرب الجوار، قد تنشأ صلات بالنظر، وربما لا تتحقق علي الاطلاق، خلال السنوات التي أقمت في ضاحية حلوان، كنت أركب المترو يوميا، خاصة في السنوات الأولي بعد زواجي مباشرة عام خمسة وسبعين، قبل أن تخصص الدار حافلة لتوصيل العاملين إلي حلوان ومدينة مايو، أستعيد علاقات الملامح ببعضها البعض، الصلات بالنظر، التحديق المتبادل بين من لا يعرفون بعضهم، والذي تتصل من خلاله دلائل الحب أو الكراهية أو التحدي كذلك التماهي الذي لا يستمر إلا مقدار الطريق. في المترو القاهري تعلو الأصوات أحيانا بالتعليقات وربما أحاديث خاصة جدا، مازلت أذكر بكاء أكثر من سيدة أو رجل لكرب ما. يتدخل الركاب مع المكلوم، ترتفع عبارات التشجيع وربما تبدي آراء ما في مشكلة فضفض بها صاحبها أو قص بعضا من ملامحها، ربما يرتفع صوت زوج أو زوجة بالشجار، عندئذ يتدخل أولاد الحلال، يحاول كل من الطرفين استمالة أولئك المجهولين له بإعلان أسباب أو رواية ما جري. تقترح حلول، وقد ترتفع ملامة، أو يجري تهدئة خاطر، ينتهي هذا كله مع الوصول إلي المحطة. في المترو الباريسي ينفرد كل بنفسه، يجلس الناس متواجهين، لكن بعد كل منهم لا يتقاطع مع الآخر، القراءة ملمح مشترك بين كثيرين. ما من تواصل إلا في حالة العشق، أحيانا يلتحم الطرفان في قبلة عميقة أو يتبادلان لمس الخدود والإمساك بالأيدي، مما بقي في ذاكرتي سيدة عجوز، بالتأكيد عبرت السبعين، غير أن عينيها تفيضان رغبة وحيوية. في ذروة تلألئهما، كانت بصحبة شاب في العشرينات، كان عناقهما وعرا، ساخنا إلي درجة خيل إليٌ معهما أنهما بصدد الإقدام! ربما لم يكن يتطلع إليهما سواي، حتي نظري إليهما كان خلسة، لو أطلت.. لو حدقت فإنني أخالف العادة، أبدو غريبا في مقام المخالف للكل..لم نجلس ظللنا واقفين، إنها أقصي درجات الزحام. لا يصل الأمر إلي حد الالتصاق التام كما يحدث في المترو القاهري وقت الذروة. هنا تظل ثمة مسافة، ربما تكون ضئيلة، غير ملحوظة لكن تبقي مسافة فاصلة. عبرنا محطة السان ميشيل، التالية شاتيليه، لم أعرف بالضبط من أي رصيف سنركب؟ لم استخدم الإر إر إلا نادرا..نفارق العربة..'يمكن أن نسأل يا ماجدة عن المحطة'..أفاجأ بمن يسألني بالعربية..'إلي أين تذهبان؟'..إما أنه جزائري أو تونسي، شاب في العقد الثالث ربما، يبدو راغبا في المعاونة، لابد اللهجة المصرية استرعت انتباهه، طبعا اللغة العربية، وربما مظاريف الأشعة كبيرة الحجم، يمثل أمامي الإماراتي وزوجته في ميونيخ، ذلك اليوم البارد المولي، تري أين هما الآن؟ أراني وماجدة بين هذا الشاب، ربما يبدو في هيئتنا ما يثير التعاطف..هذا مقلق، مايثير التعاطف عند هذا قد يكونا دافعا للتحرش عند آخر، الغريب ضعيف مهما كان، رغم حرصي أن أبدو عاديا، إلف للمكان والآخرين، إلا أن التعرف علي غربتي سهل..'اتجاه جيرسي سانت كريستوف، محطة جرسي برفكتوار..' يشير إلي اللافتة المعلقة..'ستنتظران هنا، الرصيف نفسه أسماء المحطات مكتوبة هنا، عندما يضيء اسم جرسي برفكتوار يعني هذا أن القطار القادم يقصدها.. آه.. إنها مضاءة.. اركب القطار القادم'..'شكرا يا أخي'..أنطقها من العمق، ليس علي سبيل المجاملة، تبدو رغبته الصادقة في المعاونة، بعد دقيقتين تتدفق عربات المترو إلي الرصيف، التقاطر أسرع في هذه الفترة، تقصير الفواصل الزمنية لاستيعاب الكثافة..أتطلع إلي خريطة المحطات فوق الباب، أخري في الاتجاه المقابل، أقرأ آخر محطة، إنها اسم الاتجاه..'جرسي سانت كريستوف'.. أنتقل بالبصر من محطة إلي أخري، 'بالضبط.. ها هي جرسي برفتكوار'..أعد المحطات المتبقية، أربع عشرة، يخلو مقعدان متجاوران، لا يتجه الواقفون إليهما بسرعة، كثيرون يفضلون الوقوف، إذا لمح أحدهم عجوزا أو معاقا يقوم علي الفور، كانت هذه التقاليد حية، سارية لدينا في الخمسينات وحتي السبعينات، الآن يحملق الشاب صغير السن في عيني الكهل المتوكيء علي عصا أو بادي التعب ولا يشرع في الدعوة حتي.. نجلس متجاورين..الأوبرا.. الميدان الشهير فوقنا، لم أزره ولم أعبره هذه المرة، مكان مفضل عندي. صميم الباريسية كلما جلست بمقهي السلام (كافيه دي لابيه) تذكرت سطورا لا أدري أين قرأتها عن باشوات مصر، خاصة من الوفد، كان المقهي مكانهم المفضل..ديفانس.. خرج المترو إلي ظهر الأرض، انتهي الجزء المغطي، يمضي الآن فوق كأي قطار عادي.. الديفانس خارج نطاق مدينة باريس الإداري، لكنها عمليا امتداد لها، عمارات نيويوركية التصميم والانطلاق إلي أعلي، أكثر حداثة، قوس نصر ضخم، تجريدي الخطوط يتناص مع قوس النصر التاريخي الذي شيده نابليون في ميدان النجمة قلب باريس، تناص مضاد، تناص النقيض..بخروج المترو إلي سطح الأرض تبدأ الضواحي، الضواحي؟ كلمة تثير عندي البعد السحيق، خارج المألوف لي، عند نقطة ما في هذا الاتجاه، في هذا الليل، خلال هذا الضباب، داخل مبني المستشفي يتوقع صديقي الدكتور خليل وصولنا، وها نحن نسعي، المسافات بين المحطات أبعد من تلك الواقعة داخل المدينة، الوقت معنا وأكاد أثق أننا سنصل في الموعد..

mercredi 4 juillet 2007

"الأيام" .. سيرة طه حسين التي لم تعد تُحتمل الآن!

الأيام .. سيرة طه حسين التي لم تعد تُحتمل الآن
حسن داوود

لا يُنسى ذلك المطلع الذي يصف فيه طه حسين لحظة خروجه، ضريراً، من الغرفة المقفلة ليتلقى، بحواسه الأخرى، الباقية، الهواء الممتزج بالنور المنطفئ. كانت تلك هي المرة الأولى التي يواجه فيها طه حسين العالم من دون بصره، مجرياً عملية الاستبدال السريعة تلك، العملية الأولى، لتكييف علاقته بالعالم الذي صار مختلفاً من حوله. وكان ذلك في أول الحياة، في يومها الأول ما دام أنه مطلع السيرة وأولى صفحاتها من كتاب "الأيام". بعد ذلك، في ما يتلو من الصفحات، سنساق الى ذلك الفضول الذي لطالما كان يخيفنا جاعلاً إيانا، ونحن اطفال بعد ومتمتّعون بكامل البصر، أن نجرّب كيف يكون العمى فنروح نقفل عيوننا لنرى إن كان العيش ممكناً في تلك الثواني الخمس أو العشر التي نُسرع الى إنهائها بإعادة الرواية إلى العينين.وكان ذلك الفضول مصاحَباً بفضول اضافي متعلق به وهو قراءة سيرة نجاح، بل سيرة تفوّق، وذلك في زمن كان يمكن لحكايات النجاح الشخصي ان تتحول روايات وأفلاماً. وكان ينبغي لمحب القراءة، في سنوات الستينات، ان ينتظر العمر الذي ينسى فيه تلك الصورة المنمَّطة لطه حسين، والمطبوعة في أعلى الصفحة التي يحتويها نصه في كتاب القراءة. كانت الصورة تلك مرسومة باليد، شأن صور الكتاب الأخرى، لكن صاحبها، طه حسين، بدا في هيئة لم تتكرر أبداً في ما رأيناه بعد ذلك من صوره. كان مرسوماً رسماً سيئاً في صورة القراءة تلك، مهوش الشعر مائلاً إلى السمنة وبليداً بلا همة (وهذا كله مما يخالف صورة طه حسين الحقيقية) وهناك نظارته، المستديرة المسودّة بالحبر الكثير الذي لم يترك لزجاجتيها نقطة التماع واحدة. هذا وقد قُيّض لتلك النظارة أن تتحول طرازاً خالداً من النظارات اذ ما زال يقول هؤلاء الاطفال الذين باتوا الآن في ستيناتهم: "إنك تشبه طه حسين بهذه النظارة".كان ينبغي قراءة كتاب "الأيام" لنرى ان خلف تلك النظارة ، بل خلف تلك الهيئة التي تكررت صورها واختلفت، بل خلف ذلك الاشتغال بالأدب العربي القديم، منذ الشعر الجاهلي حتى الشعر والأدب العباسيين، حياة حقيقية غير مصنوعة من الكلام الفصيح وحده. لقرائه، كان يمكن لطه حسين ان يظل قابعاً في سيرة "الشيخين"، ومع "أبي العلاء في سجنه" (أي في عماه) ومع "المتنبي"، لولا كتاب "الأيام" الذي أظهر تفاصيل كثيرة في تلك الحياة المنقسمة جغرافياً وتاريخياَ. في جهة هناك الريف المصري الفقير ومن جهة أخرى هناك أوروبا التي لم يُتح لطه حسين ان يعرفها طالباً فقط، بل أتيح له أيضاً ان يصل، في ما تلا من سنوات عمره، إلى أكثر دوائرها الثقافية شهرة. من جهة هناك ثقافة الشعر العربي ومن جهة أخرى أخْذُ تلك الثقافة بمعايير النقد الأوروبية، ذلك الذي عّرض طه حسين، في مقتبل شهرته كاتباً، إلى المنع والمحاكمة. كتاب "الأيام" يروي سيرة ذلك الانتقال، بل الانتقالات الكثيرة التي بدأها طه حسين منذ أن كان في مصر، دارساً في جامعة الأزهر التي، في سنوات العشرينات تلك، لم تتمكن من إبقاء طالبي العلم فيها محصّنين بعلمها القديم. في "الأيام" وصف طه حسين كيف انه، وزملاء له، كانوا يفرون من تعليم الفقه والشريعة إلى حصص الأدب، ذلك الذي يعمل على المشاعر والأهواء لا على ما يخاطب العقل وحده. في أثناء ما كنت أقرأ الكتاب كان يخطر لي كم هي ضيقة تلك المراهقة، وكم هي ضيّقة الخيارات أمام من هم فيها. ولا أعلم إن كان ذاك الفرار إلى الأدب، الذي هو، لأبناء جيلنا، نظير الفرار من المدرسة إلى السينما مثلاً، اسبق من عهد طه حسين طالباً. واذ يروي حسين مروه في مقابلة مطولة أجراها معه الشاعر عباس بيضون عن فراره، هو ايضاً، وفرار كثير من زملائه في النجف، الى الادب ومحاضراته، يتراءى لمن قرأ السيرتين ان الجامعتين الدينيتين الأكبر كانتا معرضتين لاهواء الخارج الى الحد الذي دفع الرجلين، والكثيرين من مجايليهما، الى خلع الزي الديني والذهاب منه الى ثقافات ومجتمعات تعارضه وتختلف عنه.أحسب أن طه حسين، في سنوات تعلمه، قد جمع مراحل الحداثة العربية كلها ابتداء من بدايات القرن التاسع عشر، اثر عودة رفاعة الطهطهاوي من باريس، حتى غلبه ثقافة الغرب، تلك الغلبة الطاغية التي دفعت به، فيما هو يسعى في المسير إلى الأمام، الى ان ييمم وجهه شطر بلادها. في الكتاب الذي أصدرته زوجته الفرنسية، سوزان، ناقلة سيرته من وجهة نظرها هذه المرة، بدأ طه حسين رجل علاقات واستقبالات منقطعاً عن ذلك التاريخ الأول الذي صورّه في "الأيام"، أو صوّر نفسه فيه مرتدياً جلباب أهل القرى وذاهباً الى الكتّاب متأبطاً كتبه وملازَماً برفيق يمسكه من ذراعه لئلا تضيّعه الطريق.كان ذلك زمن الخروج المعلن الى الحداثة، أيام كان الخارجون اليها يعرفون أين تضعهم خطواتهم كما يعرفون أيضاً أي انفصال ذاك الذين يسعون اليه. ليس حالهم حال الأجيال التي أتت من بعدهم والتي استقبلت الحداثة مختلطة بالمحلية ويصعب استخلاصها منها. بدأ ذلك الخروج ساذجاً مع توفيق الحكيم في "زهرة العمر"اذ راح يستعير مشهداً من مسرحية "هاملت" لشكسبير لكي يشعر برهبة ان يحمل جثمان أبيه على الأكتاف.ثم ان توفيق الحكيم لم يقلّ عن طه حسين في ميله إلى فرنسا، خيالاً وعاطفة، حيث بدا كما لو انه يبتكر مشاعر جديدة في حبّ بطله، او في حبّه شخصياً، لتلك الجارة الفرنسية بطلة كتاب "عصفور من الشرق". مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي تظهره صورته المطبوعة على أغلفة كتابه، مرتدياً لباس رجال الدين، كان ساعياً هو ايضاً في ادخال هذه المشاعر إلى الأفئدة حيث، بحسب ما يُفهم من زكي نجيب الناقد، بدا المنفلوطي كأنه يُبكي قرّاءه بكاء أوروبياً.تلك مرحلة من ثقافة مصر، وثقافة العرب، تجري مواجهتها الآن لطمسها. لم يعد طلاب الجامعات الدينية يفرون من دروس الفقه الى دروس الأدب. بل إن الكثيرين الكثيرين من أبناء الأجيال العربية الأخيرة، قطعوا شوطاً في القيام بتلك الرحلة المعاكسة، الى حصص الفقه والشريعة. هذه الرحلة وصلت الآن الى المحطة التي بات فيها كتاب الأيام خطراً على قرائه. وقد بدأ رد الخطر باسقاط الكتاب من لائحة الكتب التي تدرسها جامعة الأزهر، وذلك بعد أن ظلت لأكثر من نصف قرن، قابلة به ولا ترى فيه ما قد يُفسد أو يُغوي، أجيال المتعلمين فيها.حسن داوود
لا يُنسى ذلك المطلع الذي يصف فيه طه حسين لحظة خروجه، ضريراً، من الغرفة المقفلة ليتلقى، بحواسه الأخرى، الباقية، الهواء الممتزج بالنور المنطفئ. كانت تلك هي المرة الأولى التي يواجه فيها طه حسين العالم من دون بصره، مجرياً عملية الاستبدال السريعة تلك، العملية الأولى، لتكييف علاقته بالعالم الذي صار مختلفاً من حوله. وكان ذلك في أول الحياة، في يومها الأول ما دام أنه مطلع السيرة وأولى صفحاتها من كتاب "الأيام". بعد ذلك، في ما يتلو من الصفحات، سنساق الى ذلك الفضول الذي لطالما كان يخيفنا جاعلاً إيانا، ونحن اطفال بعد ومتمتّعون بكامل البصر، أن نجرّب كيف يكون العمى فنروح نقفل عيوننا لنرى إن كان العيش ممكناً في تلك الثواني الخمس أو العشر التي نُسرع الى إنهائها بإعادة الرواية إلى العينين.وكان ذلك الفضول مصاحَباً بفضول اضافي متعلق به وهو قراءة سيرة نجاح، بل سيرة تفوّق، وذلك في زمن كان يمكن لحكايات النجاح الشخصي ان تتحول روايات وأفلاماً. وكان ينبغي لمحب القراءة، في سنوات الستينات، ان ينتظر العمر الذي ينسى فيه تلك الصورة المنمَّطة لطه حسين، والمطبوعة في أعلى الصفحة التي يحتويها نصه في كتاب القراءة. كانت الصورة تلك مرسومة باليد، شأن صور الكتاب الأخرى، لكن صاحبها، طه حسين، بدا في هيئة لم تتكرر أبداً في ما رأيناه بعد ذلك من صوره. كان مرسوماً رسماً سيئاً في صورة القراءة تلك، مهوش الشعر مائلاً إلى السمنة وبليداً بلا همة (وهذا كله مما يخالف صورة طه حسين الحقيقية) وهناك نظارته، المستديرة المسودّة بالحبر الكثير الذي لم يترك لزجاجتيها نقطة التماع واحدة. هذا وقد قُيّض لتلك النظارة أن تتحول طرازاً خالداً من النظارات اذ ما زال يقول هؤلاء الاطفال الذين باتوا الآن في ستيناتهم: "إنك تشبه طه حسين بهذه النظارة".كان ينبغي قراءة كتاب "الأيام" لنرى ان خلف تلك النظارة ، بل خلف تلك الهيئة التي تكررت صورها واختلفت، بل خلف ذلك الاشتغال بالأدب العربي القديم، منذ الشعر الجاهلي حتى الشعر والأدب العباسيين، حياة حقيقية غير مصنوعة من الكلام الفصيح وحده. لقرائه، كان يمكن لطه حسين ان يظل قابعاً في سيرة "الشيخين"، ومع "أبي العلاء في سجنه" (أي في عماه) ومع "المتنبي"، لولا كتاب "الأيام" الذي أظهر تفاصيل كثيرة في تلك الحياة المنقسمة جغرافياً وتاريخياَ. في جهة هناك الريف المصري الفقير ومن جهة أخرى هناك أوروبا التي لم يُتح لطه حسين ان يعرفها طالباً فقط، بل أتيح له أيضاً ان يصل، في ما تلا من سنوات عمره، إلى أكثر دوائرها الثقافية شهرة. من جهة هناك ثقافة الشعر العربي ومن جهة أخرى أخْذُ تلك الثقافة بمعايير النقد الأوروبية، ذلك الذي عّرض طه حسين، في مقتبل شهرته كاتباً، إلى المنع والمحاكمة. كتاب "الأيام" يروي سيرة ذلك الانتقال، بل الانتقالات الكثيرة التي بدأها طه حسين منذ أن كان في مصر، دارساً في جامعة الأزهر التي، في سنوات العشرينات تلك، لم تتمكن من إبقاء طالبي العلم فيها محصّنين بعلمها القديم. في "الأيام" وصف طه حسين كيف انه، وزملاء له، كانوا يفرون من تعليم الفقه والشريعة إلى حصص الأدب، ذلك الذي يعمل على المشاعر والأهواء لا على ما يخاطب العقل وحده. في أثناء ما كنت أقرأ الكتاب كان يخطر لي كم هي ضيقة تلك المراهقة، وكم هي ضيّقة الخيارات أمام من هم فيها. ولا أعلم إن كان ذاك الفرار إلى الأدب، الذي هو، لأبناء جيلنا، نظير الفرار من المدرسة إلى السينما مثلاً، اسبق من عهد طه حسين طالباً. واذ يروي حسين مروه في مقابلة مطولة أجراها معه الشاعر عباس بيضون عن فراره، هو ايضاً، وفرار كثير من زملائه في النجف، الى الادب ومحاضراته، يتراءى لمن قرأ السيرتين ان الجامعتين الدينيتين الأكبر كانتا معرضتين لاهواء الخارج الى الحد الذي دفع الرجلين، والكثيرين من مجايليهما، الى خلع الزي الديني والذهاب منه الى ثقافات ومجتمعات تعارضه وتختلف عنه.أحسب أن طه حسين، في سنوات تعلمه، قد جمع مراحل الحداثة العربية كلها ابتداء من بدايات القرن التاسع عشر، اثر عودة رفاعة الطهطهاوي من باريس، حتى غلبه ثقافة الغرب، تلك الغلبة الطاغية التي دفعت به، فيما هو يسعى في المسير إلى الأمام، الى ان ييمم وجهه شطر بلادها. في الكتاب الذي أصدرته زوجته الفرنسية، سوزان، ناقلة سيرته من وجهة نظرها هذه المرة، بدأ طه حسين رجل علاقات واستقبالات منقطعاً عن ذلك التاريخ الأول الذي صورّه في "الأيام"، أو صوّر نفسه فيه مرتدياً جلباب أهل القرى وذاهباً الى الكتّاب متأبطاً كتبه وملازَماً برفيق يمسكه من ذراعه لئلا تضيّعه الطريق.كان ذلك زمن الخروج المعلن الى الحداثة، أيام كان الخارجون اليها يعرفون أين تضعهم خطواتهم كما يعرفون أيضاً أي انفصال ذاك الذين يسعون اليه. ليس حالهم حال الأجيال التي أتت من بعدهم والتي استقبلت الحداثة مختلطة بالمحلية ويصعب استخلاصها منها. بدأ ذلك الخروج ساذجاً مع توفيق الحكيم في "زهرة العمر"اذ راح يستعير مشهداً من مسرحية "هاملت" لشكسبير لكي يشعر برهبة ان يحمل جثمان أبيه على الأكتاف.ثم ان توفيق الحكيم لم يقلّ عن طه حسين في ميله إلى فرنسا، خيالاً وعاطفة، حيث بدا كما لو انه يبتكر مشاعر جديدة في حبّ بطله، او في حبّه شخصياً، لتلك الجارة الفرنسية بطلة كتاب "عصفور من الشرق". مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي تظهره صورته المطبوعة على أغلفة كتابه، مرتدياً لباس رجال الدين، كان ساعياً هو ايضاً في ادخال هذه المشاعر إلى الأفئدة حيث، بحسب ما يُفهم من زكي نجيب الناقد، بدا المنفلوطي كأنه يُبكي قرّاءه بكاء أوروبياً.تلك مرحلة من ثقافة مصر، وثقافة العرب، تجري مواجهتها الآن لطمسها. لم يعد طلاب الجامعات الدينية يفرون من دروس الفقه الى دروس الأدب. بل إن الكثيرين الكثيرين من أبناء الأجيال العربية الأخيرة، قطعوا شوطاً في القيام بتلك الرحلة المعاكسة، الى حصص الفقه والشريعة. هذه الرحلة وصلت الآن الى المحطة التي بات فيها كتاب الأيام خطراً على قرائه. وقد بدأ رد الخطر باسقاط الكتاب من لائحة الكتب التي تدرسها جامعة الأزهر، وذلك بعد أن ظلت لأكثر من نصف قرن، قابلة به ولا ترى فيه ما قد يُفسد أو يُغوي، أجيال المتعلمين فيها