vendredi 6 juillet 2007


يوميات الحصر

قبلة ساخنة في عربة الصامتين

جمال الغيطاني

-->باريس : 14 ديسمبرالخامسة والربع بعد الظهرهذا الرصيف الذي نمشي فوقه يؤدي إلي المركز الثقافي المصري الذي ترددت عليه مرات عديدة، إما محاضرا أو زائرا. يقع في مكان متميز، يطل علي طريق السان ميشيل مباشرة، قطعته مرارا سيرا علي الأقدام، المدخل المؤدي إلي صميم المحطة الواقعة علي عمق كبير لا يمر به إلا خط واحد، للوصول إلي المحطة التي سننزل فيها لنركب حافلة تقلنا إلي المستشفي لابد من التغيير في محطة شاتيليه شاسعة المساحة، متعددة الاتجاهات والمستويات، محطتان علي درجة كبيرة من التعقيد خاصة للأجنبي الذي يمر بهما لأول مرة. شاتيليه ومونبارناس، أتجنبهما بقدر الامكان لطول المسافة التي يستغرقها التغيير من خط إلي آخر، وربما لتفضيلي الحركة فوق الأرض عنها تحت الأرض، مهما استغرقت الحافلة من وقت فهناك فرصة للتأمل والفرجة علي المدينة، لكن إذا كان الأمر مرتبطا بمواعيد عمل محددة مثل لقاء إعلامي. أو موعد محاضرة فأفضل وسيلة هي خطوط المترو التي تنطلق بلا عوائق مرور أو اشارات حمراء عند التقاطعات..إنها المرة الأولي التي أنزل فيها إلي تلك المحطة، لا يوحي المدخل الضيق، المحدود بالمساحة والفراغات الموجودة تحت، الحركة كثيفة، الساعة تقترب من الخامسة والنصف ذروة الحركة لانصراف العاملين في معظم المؤسسات عند ذلك التوقيت، مرة صحبت صديقا لبنانيا، كان يعمل في مكتبة ابن سينا، أقدم المكتبات العربية في باريس، أحرص علي زيارتها أكثر من مرة، أجد فيها من الكتب العربية مالا أجده في مكتبات كبري بالقاهرة وعواصم عربية أخري، خاصة الكتب العربية المطبوعة في إيران، نجح صاحبها هاشم معاوية في تجميع الكتب الصادرة في المغرب والمشرق عنده، تلك التي يصعب حركتها في الأقطار العربية نتيجة للحواجز الجمركية والرقابية والريبة الأمنية ضد الكتب. صاحبي هذا كان يعمل بالمكتبة، لكنه لم يكن مجرد بائع للكتب، كان من أكثر الذين عرفتهم في المكتبات العربية معرفة بالعناوين ودور النشر وعدد الطبعات، وما يميز كل منها عن الأخري، كما كان ملما بالمخطوطات وأرقامها وأماكن حفظها، كثيرا ما رأيته يجلس إلي طلبة الدراسات العليا في جامعة باريس الخامسة المواجهة للمكتبة أو في الجامعات الأخري، يذكر لهم المصادر، والمراجع، بل يقترح بعض الموضوعات للبحث، كان وراقا بحق، لا يلم فقط بالعناوين، إنما بالموضوعات التي تتضمنها الكتب والمخطوطات وله رأي وموقف فيها، خلال أسفاري ارتبطت بعلاقات مماثلة مع أصحاب مكتبات وباعة في الاسكندرية، في الدار البيضاء، في تونس، في دمشق، حلب، صنعاء، مراكش، فارس، عمان، دبي، أبوظبي، عدن.. في كل مدينة أنزلها أقصد أقدم وأشهر مكتباتها، وعندما أزورها أكثر من مرة تبدأ بيني وبين أصحابها أو العاملين فيها صلة، لعل من أعمقها تلك التي قامت بيني وبين هاشم معاوية وصاحبي اللبناني هذا الذي يغيب اسمه عني الآن. مشينا ذات ليلة من المكتبة بعد أن أغلقها إلي هذه المحطة، قال إنه يسكن في إحدي الضواحي، وأنه يحتاج إلي مسافة زمنية قدرها خمس وعشرون دقيقة فقط. ربما كان نزوله ذلك النفق الذي ولجته منذ دقائق آخر مرة رأيته فيها. في زياراتي التالية لم أجده في المكتبة، لا أدري إلي أين؟ ربما يقع بيته علي هذا الطريق الذي سأمر به، الرصيف مزدحم، رصيف عريض، ومحطة أكبر من محطات مترو باريس العادية، لا تمر الوجوه الغاربة بالذاكرة فقط ولكن الحاضرة حولي. في محطات الانتقال من مكان إلي آخر، تبدو الملامح مستوخزة مهما بدا من تمهل أصحابها أو تشاغلهم بالنظر إلي الفراغ أو قراءة صحف أو حتي الحديث إلي آخر عند وجود الصحبة، رغم التقارب الشديد لا يعرف أحد شيئا عن الآخر، ربما يلفت أنظار بعضهم تكرار ملامح معينة نتيجة قرب الجوار، قد تنشأ صلات بالنظر، وربما لا تتحقق علي الاطلاق، خلال السنوات التي أقمت في ضاحية حلوان، كنت أركب المترو يوميا، خاصة في السنوات الأولي بعد زواجي مباشرة عام خمسة وسبعين، قبل أن تخصص الدار حافلة لتوصيل العاملين إلي حلوان ومدينة مايو، أستعيد علاقات الملامح ببعضها البعض، الصلات بالنظر، التحديق المتبادل بين من لا يعرفون بعضهم، والذي تتصل من خلاله دلائل الحب أو الكراهية أو التحدي كذلك التماهي الذي لا يستمر إلا مقدار الطريق. في المترو القاهري تعلو الأصوات أحيانا بالتعليقات وربما أحاديث خاصة جدا، مازلت أذكر بكاء أكثر من سيدة أو رجل لكرب ما. يتدخل الركاب مع المكلوم، ترتفع عبارات التشجيع وربما تبدي آراء ما في مشكلة فضفض بها صاحبها أو قص بعضا من ملامحها، ربما يرتفع صوت زوج أو زوجة بالشجار، عندئذ يتدخل أولاد الحلال، يحاول كل من الطرفين استمالة أولئك المجهولين له بإعلان أسباب أو رواية ما جري. تقترح حلول، وقد ترتفع ملامة، أو يجري تهدئة خاطر، ينتهي هذا كله مع الوصول إلي المحطة. في المترو الباريسي ينفرد كل بنفسه، يجلس الناس متواجهين، لكن بعد كل منهم لا يتقاطع مع الآخر، القراءة ملمح مشترك بين كثيرين. ما من تواصل إلا في حالة العشق، أحيانا يلتحم الطرفان في قبلة عميقة أو يتبادلان لمس الخدود والإمساك بالأيدي، مما بقي في ذاكرتي سيدة عجوز، بالتأكيد عبرت السبعين، غير أن عينيها تفيضان رغبة وحيوية. في ذروة تلألئهما، كانت بصحبة شاب في العشرينات، كان عناقهما وعرا، ساخنا إلي درجة خيل إليٌ معهما أنهما بصدد الإقدام! ربما لم يكن يتطلع إليهما سواي، حتي نظري إليهما كان خلسة، لو أطلت.. لو حدقت فإنني أخالف العادة، أبدو غريبا في مقام المخالف للكل..لم نجلس ظللنا واقفين، إنها أقصي درجات الزحام. لا يصل الأمر إلي حد الالتصاق التام كما يحدث في المترو القاهري وقت الذروة. هنا تظل ثمة مسافة، ربما تكون ضئيلة، غير ملحوظة لكن تبقي مسافة فاصلة. عبرنا محطة السان ميشيل، التالية شاتيليه، لم أعرف بالضبط من أي رصيف سنركب؟ لم استخدم الإر إر إلا نادرا..نفارق العربة..'يمكن أن نسأل يا ماجدة عن المحطة'..أفاجأ بمن يسألني بالعربية..'إلي أين تذهبان؟'..إما أنه جزائري أو تونسي، شاب في العقد الثالث ربما، يبدو راغبا في المعاونة، لابد اللهجة المصرية استرعت انتباهه، طبعا اللغة العربية، وربما مظاريف الأشعة كبيرة الحجم، يمثل أمامي الإماراتي وزوجته في ميونيخ، ذلك اليوم البارد المولي، تري أين هما الآن؟ أراني وماجدة بين هذا الشاب، ربما يبدو في هيئتنا ما يثير التعاطف..هذا مقلق، مايثير التعاطف عند هذا قد يكونا دافعا للتحرش عند آخر، الغريب ضعيف مهما كان، رغم حرصي أن أبدو عاديا، إلف للمكان والآخرين، إلا أن التعرف علي غربتي سهل..'اتجاه جيرسي سانت كريستوف، محطة جرسي برفكتوار..' يشير إلي اللافتة المعلقة..'ستنتظران هنا، الرصيف نفسه أسماء المحطات مكتوبة هنا، عندما يضيء اسم جرسي برفكتوار يعني هذا أن القطار القادم يقصدها.. آه.. إنها مضاءة.. اركب القطار القادم'..'شكرا يا أخي'..أنطقها من العمق، ليس علي سبيل المجاملة، تبدو رغبته الصادقة في المعاونة، بعد دقيقتين تتدفق عربات المترو إلي الرصيف، التقاطر أسرع في هذه الفترة، تقصير الفواصل الزمنية لاستيعاب الكثافة..أتطلع إلي خريطة المحطات فوق الباب، أخري في الاتجاه المقابل، أقرأ آخر محطة، إنها اسم الاتجاه..'جرسي سانت كريستوف'.. أنتقل بالبصر من محطة إلي أخري، 'بالضبط.. ها هي جرسي برفتكوار'..أعد المحطات المتبقية، أربع عشرة، يخلو مقعدان متجاوران، لا يتجه الواقفون إليهما بسرعة، كثيرون يفضلون الوقوف، إذا لمح أحدهم عجوزا أو معاقا يقوم علي الفور، كانت هذه التقاليد حية، سارية لدينا في الخمسينات وحتي السبعينات، الآن يحملق الشاب صغير السن في عيني الكهل المتوكيء علي عصا أو بادي التعب ولا يشرع في الدعوة حتي.. نجلس متجاورين..الأوبرا.. الميدان الشهير فوقنا، لم أزره ولم أعبره هذه المرة، مكان مفضل عندي. صميم الباريسية كلما جلست بمقهي السلام (كافيه دي لابيه) تذكرت سطورا لا أدري أين قرأتها عن باشوات مصر، خاصة من الوفد، كان المقهي مكانهم المفضل..ديفانس.. خرج المترو إلي ظهر الأرض، انتهي الجزء المغطي، يمضي الآن فوق كأي قطار عادي.. الديفانس خارج نطاق مدينة باريس الإداري، لكنها عمليا امتداد لها، عمارات نيويوركية التصميم والانطلاق إلي أعلي، أكثر حداثة، قوس نصر ضخم، تجريدي الخطوط يتناص مع قوس النصر التاريخي الذي شيده نابليون في ميدان النجمة قلب باريس، تناص مضاد، تناص النقيض..بخروج المترو إلي سطح الأرض تبدأ الضواحي، الضواحي؟ كلمة تثير عندي البعد السحيق، خارج المألوف لي، عند نقطة ما في هذا الاتجاه، في هذا الليل، خلال هذا الضباب، داخل مبني المستشفي يتوقع صديقي الدكتور خليل وصولنا، وها نحن نسعي، المسافات بين المحطات أبعد من تلك الواقعة داخل المدينة، الوقت معنا وأكاد أثق أننا سنصل في الموعد..

Aucun commentaire: