lundi 16 juillet 2007

...علي أهدابه عشب الجليل


علي أهدابه عشب الجليل
صبحي حديدي
16/07/2007
كما يحقّ لأيّ شاعر أن يحسد محمود درويش علي أمسية حيفا المشهودة، سواء في مستوي الاختبار الرهيب لعلاقة الشعر العيانية بالمتلقي، باديء ذي بدء، أو في البعد الإنساني الاحتفائي والاحتفالي والطقسي لإلقاء الشعر ضمن سياقات استثنائية كهذه بالذات؛ كذلك يحقّ للشاعر ذاته أن يشفق علي درويش إذا تخيّل مقدار الضغوطات الهائلة، التي ستكون متبادلة عارمة عاتية، بين حاجات الحشود وحاجات القصيدة، وبين علم نفس العواطف الجَمْعية وعلم جمال الشعر الرفيع.وفي حوار مع الإتحاد الحيفاوية شدّد درويش علي عنصرَي اللهفة والخشية في لقائه بأبناء شعبه بعد كلّ هذا الغياب، وعلي أرض حيفا التي تحتلّ في نفسه ـ في شعوره، كما في شعره ـ مكانة خاصة: تمتزج الخشية باللهفة لأنّ الزمن الذي فصلنا عن بعض زمن طويل، كبرتُ فيه بطريقة ما، وأبناء جيلي كبروا بطريقة ما، ونمت أجيال جديدة لم يحصل من قبل احتكاك بحساسيتها الشعرية. لذلك أنا ذاهب إلي ما يشبه المجهول الجميل . وبعد أن أكّد، وفي الوسع تصديقه تماماً، أنه يشعر كمَنْ يقرأ للمرّة الأولي ويدخل امتحانًا، تمني درويش أن تكون المسافة الجغرافية بيني وبين قرّاء الشعر الذين سألتقيهم في حيفا مسافة وهمية، وأن يكون التطابق كاملاً بين ما أحسّ به وما يحسّون به، وبين حساسيتي الشعرية وحساسيتهم الشعرية .هيهات، مع ذلك، أن يبلغ التطابق درجة كاملة في قاعة كهذه وتحت تأثير السياقات العديدة، الإنسانية والسياسية والعاطفية والوطنية، التي اكتنفت تنظيم لقاء نوعي بالغ الخصوصية، سرعان ما تجاوز بكثير أغراض أمسيات الشعر. وغنيّ عن القول إنني أكتب هذه السطور قبل ساعات من بدء الأمسية، وأتمني حقاً أن تخيّب وقائعها وجهة نظري الحذرة تجاه احتمالات التطابق الكامل بين حساسية درويش وحساسية ذلك الجمهور، تلك القاعة، ذلك المكان. غنيّ عن القول، كذلك، أنني هنا لا أقصد البتة الإيحاء بحكم قيمة من أيّ نوع علي جمهور قاعة الـ أوديتوريوم الحيفاوية، بالقياس علي جمهور درويش في أيّ مكان قرأ فيه شعراً، بل لعلّ العكس بالضبط هو ما أرمي إليه: أنني أنحاز إلي حساسية هذا الجمهور، أكثر من انحيازي إلي حساسية الشاعر.ومنذ مطالع السبعينيات أصغيت إلي درويش يقرأ شعراً في مدن كثيرة: دمشق وعمّان وصنعاء وعدن وتونس وقفصة والرباط والدار البيضاء والقاهرة ودبي... وكنت غالباً أبتهج حين يفاجيء جمهوره بشعر جديد، أو علي نحو أدقّ: حين يميل إلي تغليب حقوق القصيدة الجديدة (التي يحدث مراراً أن يجدها المتلقي شاقة، صعبة، أو حتي غريبة بعض الشيء للوهلة الأولي) علي رغبات الجمهور. ولكن لو قُيّض لي أن أكون في صفوف مستمعيه الحيفاويين أمس، هل كنت سأتردّد في المطالبة بحقّي في أن يقرأ شيئاً من شعره القديم، اللصيق بالذاكرة الجمالية والذاكرة الوطنية، الضارب عميقاً في باطن الذائقة الجَمْعية؟ وأيّ ارتطام للحساسيات (وهمي أصلاً، وافتراضيّ) يمكن أن يمنع الشاعر من قراءة قصيدة له أحبّها جمهوره، أو حتي أفرط في حبّها حتي رفعها إلي مصافّ الأيقونة؟ لماذا لا أطالب بقصائد قديمة مثل بطاقة هوية و عاشق من فلسطين و إلي أمّي و برقية من السجن و موّال و يوميات جرح فلسطيني حين ذكّر العالم: نحن في حلّ من التذكار/ فالكرمل فينا/ وعلي أهدابنا عشب الجليلِ/ لا تقولي: ليتنا نركض كالنهر إليها، لا تقولي/ نحن في لحم بلادي... وهي فينا ... تماماً كحقّ درويش في أن يقرأ لي ما يشاء من أحدث قصيدة كتبها، ويري أنها تمثل شعريته الراهنة؟ وإذا لم أطالب بهذا الحقّ وأنا أستمع إليه في حيفا، فأين ينبغي أن أطالب به؟غير أنّ درويش يُحسد علي ذلك الناظم الذهبي الذي يدير العلاقة بين شعره الجديد وقارئه الدائم، الأمر الذي سبق لي أن توقفت عنده بتفصيل أكثر في مناسبات سابقة. فإلي جانب عناده الشخصي وإصراره علي تطوير برنامجه الجمالي، حظي درويش بمساعدة القاريء ذاته في مواصلة التطوير، لأنّ القاريء كان ويظلّ رفيع الاستجابة، ولا يتردد طويلاً قبل أن يجد مكانه في الطور الجديد. ولقد تبدّي هذا الوضع في القصائد الملحمية الطويلة بصفة خاصة، حيث كانت هذه تكتسب بُعداً أيقونياً يسري علي القصيدة محطّ هوي القاريء، والقصيدة (ذاتها) وهي تمهّد لخيارات قادمة في قصيدة جديدة. وهكذا اكتسبت سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا ، 1972، وظيفتها الأيقونية حين استجمعت دلالات التراجيديا الفلسطينية في شخص سرحان بشارة سرحان؛ ولكنها ظلّت ماثلة في ذائقة القاريء حين قرأ أحمد الزعتر ، 1977، قبل أن تكتسب هذه بدورها وظيفتها الأيقونية بالنسبة إلي مديح الظل العالي ، 1983؛ وهذه بالنسبة إلي قصيدة بيروت ، 1983؛ ثمّ مأساة النرجس، ملهاة الفضة ، و أحد عشر كوكباً علي آخر المشهد الأندلسي ، وهكذا...وإذا صحّ أنّ التطابق الكامل ممتنع لاعتبارات ذاتية وموضوعية، ولعلّه غير مطلوب أصلاً، أفلا يُحسد درويش علي هذا التطابق الراهن، المتقدّم المتنامي باضطراد؟ وإذْ يحييّ المرء الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ومجلة مشارف علي مبادرة أدبية ذكية انقلبت سريعاً إلي حدث وطني، أفلا تُحسد حيفا ـ وفلسطين قاطبة ـ علي حشد نوعيّ أسقط مسبقاً كلّ المسافات الوهمية بين ذائقة وذائقة، وبطاقة هوية وأخري؟

Aucun commentaire: