الأيام .. سيرة طه حسين التي لم تعد تُحتمل الآن
حسن داوود
لا يُنسى ذلك المطلع الذي يصف فيه طه حسين لحظة خروجه، ضريراً، من الغرفة المقفلة ليتلقى، بحواسه الأخرى، الباقية، الهواء الممتزج بالنور المنطفئ. كانت تلك هي المرة الأولى التي يواجه فيها طه حسين العالم من دون بصره، مجرياً عملية الاستبدال السريعة تلك، العملية الأولى، لتكييف علاقته بالعالم الذي صار مختلفاً من حوله. وكان ذلك في أول الحياة، في يومها الأول ما دام أنه مطلع السيرة وأولى صفحاتها من كتاب "الأيام". بعد ذلك، في ما يتلو من الصفحات، سنساق الى ذلك الفضول الذي لطالما كان يخيفنا جاعلاً إيانا، ونحن اطفال بعد ومتمتّعون بكامل البصر، أن نجرّب كيف يكون العمى فنروح نقفل عيوننا لنرى إن كان العيش ممكناً في تلك الثواني الخمس أو العشر التي نُسرع الى إنهائها بإعادة الرواية إلى العينين.وكان ذلك الفضول مصاحَباً بفضول اضافي متعلق به وهو قراءة سيرة نجاح، بل سيرة تفوّق، وذلك في زمن كان يمكن لحكايات النجاح الشخصي ان تتحول روايات وأفلاماً. وكان ينبغي لمحب القراءة، في سنوات الستينات، ان ينتظر العمر الذي ينسى فيه تلك الصورة المنمَّطة لطه حسين، والمطبوعة في أعلى الصفحة التي يحتويها نصه في كتاب القراءة. كانت الصورة تلك مرسومة باليد، شأن صور الكتاب الأخرى، لكن صاحبها، طه حسين، بدا في هيئة لم تتكرر أبداً في ما رأيناه بعد ذلك من صوره. كان مرسوماً رسماً سيئاً في صورة القراءة تلك، مهوش الشعر مائلاً إلى السمنة وبليداً بلا همة (وهذا كله مما يخالف صورة طه حسين الحقيقية) وهناك نظارته، المستديرة المسودّة بالحبر الكثير الذي لم يترك لزجاجتيها نقطة التماع واحدة. هذا وقد قُيّض لتلك النظارة أن تتحول طرازاً خالداً من النظارات اذ ما زال يقول هؤلاء الاطفال الذين باتوا الآن في ستيناتهم: "إنك تشبه طه حسين بهذه النظارة".كان ينبغي قراءة كتاب "الأيام" لنرى ان خلف تلك النظارة ، بل خلف تلك الهيئة التي تكررت صورها واختلفت، بل خلف ذلك الاشتغال بالأدب العربي القديم، منذ الشعر الجاهلي حتى الشعر والأدب العباسيين، حياة حقيقية غير مصنوعة من الكلام الفصيح وحده. لقرائه، كان يمكن لطه حسين ان يظل قابعاً في سيرة "الشيخين"، ومع "أبي العلاء في سجنه" (أي في عماه) ومع "المتنبي"، لولا كتاب "الأيام" الذي أظهر تفاصيل كثيرة في تلك الحياة المنقسمة جغرافياً وتاريخياَ. في جهة هناك الريف المصري الفقير ومن جهة أخرى هناك أوروبا التي لم يُتح لطه حسين ان يعرفها طالباً فقط، بل أتيح له أيضاً ان يصل، في ما تلا من سنوات عمره، إلى أكثر دوائرها الثقافية شهرة. من جهة هناك ثقافة الشعر العربي ومن جهة أخرى أخْذُ تلك الثقافة بمعايير النقد الأوروبية، ذلك الذي عّرض طه حسين، في مقتبل شهرته كاتباً، إلى المنع والمحاكمة. كتاب "الأيام" يروي سيرة ذلك الانتقال، بل الانتقالات الكثيرة التي بدأها طه حسين منذ أن كان في مصر، دارساً في جامعة الأزهر التي، في سنوات العشرينات تلك، لم تتمكن من إبقاء طالبي العلم فيها محصّنين بعلمها القديم. في "الأيام" وصف طه حسين كيف انه، وزملاء له، كانوا يفرون من تعليم الفقه والشريعة إلى حصص الأدب، ذلك الذي يعمل على المشاعر والأهواء لا على ما يخاطب العقل وحده. في أثناء ما كنت أقرأ الكتاب كان يخطر لي كم هي ضيقة تلك المراهقة، وكم هي ضيّقة الخيارات أمام من هم فيها. ولا أعلم إن كان ذاك الفرار إلى الأدب، الذي هو، لأبناء جيلنا، نظير الفرار من المدرسة إلى السينما مثلاً، اسبق من عهد طه حسين طالباً. واذ يروي حسين مروه في مقابلة مطولة أجراها معه الشاعر عباس بيضون عن فراره، هو ايضاً، وفرار كثير من زملائه في النجف، الى الادب ومحاضراته، يتراءى لمن قرأ السيرتين ان الجامعتين الدينيتين الأكبر كانتا معرضتين لاهواء الخارج الى الحد الذي دفع الرجلين، والكثيرين من مجايليهما، الى خلع الزي الديني والذهاب منه الى ثقافات ومجتمعات تعارضه وتختلف عنه.أحسب أن طه حسين، في سنوات تعلمه، قد جمع مراحل الحداثة العربية كلها ابتداء من بدايات القرن التاسع عشر، اثر عودة رفاعة الطهطهاوي من باريس، حتى غلبه ثقافة الغرب، تلك الغلبة الطاغية التي دفعت به، فيما هو يسعى في المسير إلى الأمام، الى ان ييمم وجهه شطر بلادها. في الكتاب الذي أصدرته زوجته الفرنسية، سوزان، ناقلة سيرته من وجهة نظرها هذه المرة، بدأ طه حسين رجل علاقات واستقبالات منقطعاً عن ذلك التاريخ الأول الذي صورّه في "الأيام"، أو صوّر نفسه فيه مرتدياً جلباب أهل القرى وذاهباً الى الكتّاب متأبطاً كتبه وملازَماً برفيق يمسكه من ذراعه لئلا تضيّعه الطريق.كان ذلك زمن الخروج المعلن الى الحداثة، أيام كان الخارجون اليها يعرفون أين تضعهم خطواتهم كما يعرفون أيضاً أي انفصال ذاك الذين يسعون اليه. ليس حالهم حال الأجيال التي أتت من بعدهم والتي استقبلت الحداثة مختلطة بالمحلية ويصعب استخلاصها منها. بدأ ذلك الخروج ساذجاً مع توفيق الحكيم في "زهرة العمر"اذ راح يستعير مشهداً من مسرحية "هاملت" لشكسبير لكي يشعر برهبة ان يحمل جثمان أبيه على الأكتاف.ثم ان توفيق الحكيم لم يقلّ عن طه حسين في ميله إلى فرنسا، خيالاً وعاطفة، حيث بدا كما لو انه يبتكر مشاعر جديدة في حبّ بطله، او في حبّه شخصياً، لتلك الجارة الفرنسية بطلة كتاب "عصفور من الشرق". مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي تظهره صورته المطبوعة على أغلفة كتابه، مرتدياً لباس رجال الدين، كان ساعياً هو ايضاً في ادخال هذه المشاعر إلى الأفئدة حيث، بحسب ما يُفهم من زكي نجيب الناقد، بدا المنفلوطي كأنه يُبكي قرّاءه بكاء أوروبياً.تلك مرحلة من ثقافة مصر، وثقافة العرب، تجري مواجهتها الآن لطمسها. لم يعد طلاب الجامعات الدينية يفرون من دروس الفقه الى دروس الأدب. بل إن الكثيرين الكثيرين من أبناء الأجيال العربية الأخيرة، قطعوا شوطاً في القيام بتلك الرحلة المعاكسة، الى حصص الفقه والشريعة. هذه الرحلة وصلت الآن الى المحطة التي بات فيها كتاب الأيام خطراً على قرائه. وقد بدأ رد الخطر باسقاط الكتاب من لائحة الكتب التي تدرسها جامعة الأزهر، وذلك بعد أن ظلت لأكثر من نصف قرن، قابلة به ولا ترى فيه ما قد يُفسد أو يُغوي، أجيال المتعلمين فيها.حسن داوود
لا يُنسى ذلك المطلع الذي يصف فيه طه حسين لحظة خروجه، ضريراً، من الغرفة المقفلة ليتلقى، بحواسه الأخرى، الباقية، الهواء الممتزج بالنور المنطفئ. كانت تلك هي المرة الأولى التي يواجه فيها طه حسين العالم من دون بصره، مجرياً عملية الاستبدال السريعة تلك، العملية الأولى، لتكييف علاقته بالعالم الذي صار مختلفاً من حوله. وكان ذلك في أول الحياة، في يومها الأول ما دام أنه مطلع السيرة وأولى صفحاتها من كتاب "الأيام". بعد ذلك، في ما يتلو من الصفحات، سنساق الى ذلك الفضول الذي لطالما كان يخيفنا جاعلاً إيانا، ونحن اطفال بعد ومتمتّعون بكامل البصر، أن نجرّب كيف يكون العمى فنروح نقفل عيوننا لنرى إن كان العيش ممكناً في تلك الثواني الخمس أو العشر التي نُسرع الى إنهائها بإعادة الرواية إلى العينين.وكان ذلك الفضول مصاحَباً بفضول اضافي متعلق به وهو قراءة سيرة نجاح، بل سيرة تفوّق، وذلك في زمن كان يمكن لحكايات النجاح الشخصي ان تتحول روايات وأفلاماً. وكان ينبغي لمحب القراءة، في سنوات الستينات، ان ينتظر العمر الذي ينسى فيه تلك الصورة المنمَّطة لطه حسين، والمطبوعة في أعلى الصفحة التي يحتويها نصه في كتاب القراءة. كانت الصورة تلك مرسومة باليد، شأن صور الكتاب الأخرى، لكن صاحبها، طه حسين، بدا في هيئة لم تتكرر أبداً في ما رأيناه بعد ذلك من صوره. كان مرسوماً رسماً سيئاً في صورة القراءة تلك، مهوش الشعر مائلاً إلى السمنة وبليداً بلا همة (وهذا كله مما يخالف صورة طه حسين الحقيقية) وهناك نظارته، المستديرة المسودّة بالحبر الكثير الذي لم يترك لزجاجتيها نقطة التماع واحدة. هذا وقد قُيّض لتلك النظارة أن تتحول طرازاً خالداً من النظارات اذ ما زال يقول هؤلاء الاطفال الذين باتوا الآن في ستيناتهم: "إنك تشبه طه حسين بهذه النظارة".كان ينبغي قراءة كتاب "الأيام" لنرى ان خلف تلك النظارة ، بل خلف تلك الهيئة التي تكررت صورها واختلفت، بل خلف ذلك الاشتغال بالأدب العربي القديم، منذ الشعر الجاهلي حتى الشعر والأدب العباسيين، حياة حقيقية غير مصنوعة من الكلام الفصيح وحده. لقرائه، كان يمكن لطه حسين ان يظل قابعاً في سيرة "الشيخين"، ومع "أبي العلاء في سجنه" (أي في عماه) ومع "المتنبي"، لولا كتاب "الأيام" الذي أظهر تفاصيل كثيرة في تلك الحياة المنقسمة جغرافياً وتاريخياَ. في جهة هناك الريف المصري الفقير ومن جهة أخرى هناك أوروبا التي لم يُتح لطه حسين ان يعرفها طالباً فقط، بل أتيح له أيضاً ان يصل، في ما تلا من سنوات عمره، إلى أكثر دوائرها الثقافية شهرة. من جهة هناك ثقافة الشعر العربي ومن جهة أخرى أخْذُ تلك الثقافة بمعايير النقد الأوروبية، ذلك الذي عّرض طه حسين، في مقتبل شهرته كاتباً، إلى المنع والمحاكمة. كتاب "الأيام" يروي سيرة ذلك الانتقال، بل الانتقالات الكثيرة التي بدأها طه حسين منذ أن كان في مصر، دارساً في جامعة الأزهر التي، في سنوات العشرينات تلك، لم تتمكن من إبقاء طالبي العلم فيها محصّنين بعلمها القديم. في "الأيام" وصف طه حسين كيف انه، وزملاء له، كانوا يفرون من تعليم الفقه والشريعة إلى حصص الأدب، ذلك الذي يعمل على المشاعر والأهواء لا على ما يخاطب العقل وحده. في أثناء ما كنت أقرأ الكتاب كان يخطر لي كم هي ضيقة تلك المراهقة، وكم هي ضيّقة الخيارات أمام من هم فيها. ولا أعلم إن كان ذاك الفرار إلى الأدب، الذي هو، لأبناء جيلنا، نظير الفرار من المدرسة إلى السينما مثلاً، اسبق من عهد طه حسين طالباً. واذ يروي حسين مروه في مقابلة مطولة أجراها معه الشاعر عباس بيضون عن فراره، هو ايضاً، وفرار كثير من زملائه في النجف، الى الادب ومحاضراته، يتراءى لمن قرأ السيرتين ان الجامعتين الدينيتين الأكبر كانتا معرضتين لاهواء الخارج الى الحد الذي دفع الرجلين، والكثيرين من مجايليهما، الى خلع الزي الديني والذهاب منه الى ثقافات ومجتمعات تعارضه وتختلف عنه.أحسب أن طه حسين، في سنوات تعلمه، قد جمع مراحل الحداثة العربية كلها ابتداء من بدايات القرن التاسع عشر، اثر عودة رفاعة الطهطهاوي من باريس، حتى غلبه ثقافة الغرب، تلك الغلبة الطاغية التي دفعت به، فيما هو يسعى في المسير إلى الأمام، الى ان ييمم وجهه شطر بلادها. في الكتاب الذي أصدرته زوجته الفرنسية، سوزان، ناقلة سيرته من وجهة نظرها هذه المرة، بدأ طه حسين رجل علاقات واستقبالات منقطعاً عن ذلك التاريخ الأول الذي صورّه في "الأيام"، أو صوّر نفسه فيه مرتدياً جلباب أهل القرى وذاهباً الى الكتّاب متأبطاً كتبه وملازَماً برفيق يمسكه من ذراعه لئلا تضيّعه الطريق.كان ذلك زمن الخروج المعلن الى الحداثة، أيام كان الخارجون اليها يعرفون أين تضعهم خطواتهم كما يعرفون أيضاً أي انفصال ذاك الذين يسعون اليه. ليس حالهم حال الأجيال التي أتت من بعدهم والتي استقبلت الحداثة مختلطة بالمحلية ويصعب استخلاصها منها. بدأ ذلك الخروج ساذجاً مع توفيق الحكيم في "زهرة العمر"اذ راح يستعير مشهداً من مسرحية "هاملت" لشكسبير لكي يشعر برهبة ان يحمل جثمان أبيه على الأكتاف.ثم ان توفيق الحكيم لم يقلّ عن طه حسين في ميله إلى فرنسا، خيالاً وعاطفة، حيث بدا كما لو انه يبتكر مشاعر جديدة في حبّ بطله، او في حبّه شخصياً، لتلك الجارة الفرنسية بطلة كتاب "عصفور من الشرق". مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي تظهره صورته المطبوعة على أغلفة كتابه، مرتدياً لباس رجال الدين، كان ساعياً هو ايضاً في ادخال هذه المشاعر إلى الأفئدة حيث، بحسب ما يُفهم من زكي نجيب الناقد، بدا المنفلوطي كأنه يُبكي قرّاءه بكاء أوروبياً.تلك مرحلة من ثقافة مصر، وثقافة العرب، تجري مواجهتها الآن لطمسها. لم يعد طلاب الجامعات الدينية يفرون من دروس الفقه الى دروس الأدب. بل إن الكثيرين الكثيرين من أبناء الأجيال العربية الأخيرة، قطعوا شوطاً في القيام بتلك الرحلة المعاكسة، الى حصص الفقه والشريعة. هذه الرحلة وصلت الآن الى المحطة التي بات فيها كتاب الأيام خطراً على قرائه. وقد بدأ رد الخطر باسقاط الكتاب من لائحة الكتب التي تدرسها جامعة الأزهر، وذلك بعد أن ظلت لأكثر من نصف قرن، قابلة به ولا ترى فيه ما قد يُفسد أو يُغوي، أجيال المتعلمين فيها
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire